انتظر العراق المستباح طويلا جداً، وبعد سنوات شاقة من المعاناة في كل الميادين، حتى ينفجر السخط الشعبي المتراكم. سنوات طويلة من انهيار الخدمات والانقسام الطائفي والفساد وغياب المبدأ الوطني الجامع.
كان الشعب يأمل بعد سقوط النظام البعثي ان يرى انفراجاً حقيقيا في طريق الديمقراطية والعدالة والرفاهية. ولكن الآمال خابت، وجاء ما هو الأسوأ من السيء المنهار.. ان مشكلة الكهرباء ليست بالجديدة، بل لها عمر أكثر من عشر سنوات، وصرف أكثر من 40 مليار دولار، ولكنها ازدادت سوءاً بعد سوء، حتى انفجر السخط الشعبي في صيف ذي حرارة عالية شرسة وبالغة القسوة. ان هذه المظاهرات السلمية المباركة، تبشر باستعادة درجات من المبدأ الوطني، ونأمل ان تحول الى حركة جماهيرية سلمية وطنية عامة باتجاه الإصلاح السلمي وإعادة بناء الوحدة الوطنية والعملية السياسية، بعيدا عن المحاصصات، وقيام حكومة طوارئ مؤقته، غير حزبية، تضع في مقدمة جدول اعمالها محاسبة داعش بنجاعة وبروح وطنية، وبجيش وطني ومعالجة موضوع الخدمات ومحاربة الفساد وفضح الفاسدين ..
ان هذا التحرك الشعبي العارم، العفوي وشبه العفوي، والذي شاركت فيه قوى المجتمع المدني وقوى سياسية ديمقراطية، يجب ونتمنى ان يحافظ على زخمة وانتظامه وسلمية اساليبه، وتجنب كل درجة من اشكال العنف التي سوف تستغل للتشهير والتشويه والقمع. والمأمول ان تقطع الجماهير الواعية الطريق على بعض المجموعات والمليشيات والتكتلات التي تحاول سرقة روح المظاهرات وأهدافها في التغيير سواء بإعطاء صبغة مذهبية دينية او بطرق مراوغة أخرى. ويجب الانتباه بوجه خاص الى دعوات مشبوهة يروجها في المظاهرات أنصار المالكي وبعض قادة المليشيات حول ألغاء العمل السياسي البرلماني واستبداله بنظام مركزي رئاسي، وهو ما يمكن ان يؤدي الى قيام دكتاتورية صدامية جديدة يتزعمها المالكي.
ان الحكام والغاضبين من التحرك الشعبي، يحاولون اظهاره وكأنه كان حول الكهرباء وحدها وبعضهم يراه مؤامرة كبرى. صحيح ان مشكلة الكهرباء كانت درجة غليان الانفجار، ولكن من رأى اللافتات وسمع الهتافات وما يدور في وسائل الاتصال الاجتماعي، مقتنع بان الجماهير الطليعية التي هبت للتظاهر، كانت تدرك ان مشكلة الكهرباء جزء من المشاكل التي تسحق المواطنين وأنها نتيجة حتمية لنظام المحاصصة، والروح الطائفية، ونزعات الاجتثاث والاستئثار ولاسيما ما تراكم في عهدي المالكي. وان محاولات الحلول الجزئية لمشكلة الكهرباء لا تكفي لحل ازمة شاملة، متعددة الابعاد..

اننا نحيي شعبنا الابيّ، ونأمل ان يواصل مسيرته النضالية في الطريق نحو عراق ديمقراطي، علماني، كامل السيادة، ولا يعرف التمييز على أساس الدين والمذهب والعرق. من اجل المحافظة على روح الاقدام وعلى سلمية التحرك، وتطوير المطالب باتجاه المطالبة بالتغيير الشامل للعملية السياسية، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ومعاقبة المقصرين والفاسدين ولاسيما المسؤولين عن وقوع مساحات شاسعة من الأرض العراقية تحت قبضة برابرة داعش. وبالوحدة الوطنية الرصينة يمكن للعراق ان يسير الى الامام.
•&كتب هذا المقال قبل القرارات التي اتخذها العبادي ومجلس الوزراء. وهذا ما سوف نعود اليه في مقال قادم. واشير هنا الى انه عند تعيين السيد العبادي نشرت مقالاً دعوته فيه الى تجميد عضويته في حزب الدعوة، وايدت اقتراح الدكتور غسان العطية بجعل جميع الوزارات الخدمية خارج المحاصصة، كخطوة أولى نحو الغاء المحاصصة فيما بعد، املاً ان ينجح العبادي في مساعيه الجديدة مثمناً رغبته في الإصلاح ومعبراً من جديد عن اعجابي بهذه النهضة الجماهيرية ذات الطابع الوطني العام.
&