هذا ما أملاه علي الخيال عن حكاية من حكايا الرمال...
ها أنا بعد يوم طويل حافل بالتعب والروتين، أستلقي في غرفة الجلوس وأقلِّب محطات التلفاز ريثما يجهز الطعام؛ تارة أتابع الوقت الإضافي لمباراة مملة، وتارة أشاهد فيلم رعب يمنعني إعلان رخيص من إكماله، لأتحول عنه إلى برنامج يُخبرنا عن أحدث طلاقات المشاهير.. غير أنَّ إطلالة "بروس جينر Bruce Jenner" بتسريحة شعرِهِ الجديدة وفستانِهِ المُثير دفعتني مرة أخرى للتحول إلى قناة للرسوم المتحركة ودائما مع آخر وصفات شرشبيل السحرية.. وما إن بدأ بالقهقهة عالياً حتى سارَعْت إلى تخفيض الصوت وانتقلت إلى قناة ثانية حيث أصغَيْت للشاعر نزار قباني وهو يُلقي قصيدة "رسالة من تحت الماء" في إعادة لمقابلة قديمة معه. إلى أن ناهَزَت الساعة الثامنة إلا ربعاً فانتقلت فوراً للأخبار وبينما كنت أستمع إلى نشرة الطقس وسرعة الرياح وحال البحر كان النعاس يجتاحني كأمواج لطيفة تُأرْجِح قوْقعَة أذُني إلى أن سحَبتني للغرق في نوم عميق...
لأجد نفسي أتمشى على شاطئ كل ما فيه يميل إلى الزُرْقَة الداكنة الممزوجة بإحمرار السماء. لا يُقاطع سكونه المُطْبق إلا أنفاسي الباردة وأصداء طفل بدا بعيداً كالسراب، فسرّعت من خطواتي حتى بلغته، حيث هالني ما رأيت؛ صبي تعلو وجهه صُفْرة شديدة مُسْتلق على الرمال يضحك ويردد: "إني أغرق" بينما تداعبه الأمواج يُمنة ويَسارا كأرْجوحة الصغار. ثم جلس ورسم على الرمال سفينة ولكن زبد البحر كان يمنعه مراراً من إنهاء أشرعتها وهو لا يمل أبداً من هذه المداعبة.
أما وراءه فكان يوجد مخلوقات غريبة عجيبة، زرقاء وفي غاية القِصَر، وجوههم على بطونهم ورؤوسهم خالية من الملامح. أفواههم محشوة عن قصد بشيئ يمنعهم من التكلم وعاجزون من الهروب بسبب حبل السُرَّة الذي يربطهم بإحكام! بالطبع حاولت وعلى الرغم من كل هذا الرعب السائد أن أستفهم الطفل عما يجري إلا أن محاولاتي اليائسة لم تُجْدي نفعاً.. كأنه لا يراني!.. كأنني فُقاعة ماء في بحر ما يجري!.. إلى أن وقف فجأة وتقدم نحوي وبدأ يدور حولي يتفحصني بناظريه ويشم جلدي كأنه يريد أكلي ثم أشار بإصبعه أنْ إلزم الصمت.. فقعدت كتمثال نُحِت على الرمال. ومن بعد أنْ أدار ظهره، ذهب وخاطب أحد هذه المخلوقات فناداه مُتَهكِّماً بإسمِ أنثى وقال له: إبصق الرمال من فمكَ يا "ألِيس Alice".. وسأله: "هل تسمع صوتي القادم من أعماق البحر؟".. ومن ثم تابع متحدياً: "إن كنت قويا أخرجني من هذا اليَم.. فأنا لا أعرف فن العوم". فقال ألِيس وهو مذعور: "لو تقل لي من أنت؟.. وما الذي أتى بنا إلى هنا؟.. قل لنا كيف نساعدك؟"، فابتسم الطفل مستهزءاً وقال: "إن كنت صديقي.."، فقاطعه ألِيس بتلهف: "قطعاً وبالتأكيد.. ولدي نفوذ كبير"، فأجابه الطفل: "إذاً ساعدني كي أرحل عنك" ثم أردف يقول كمن يشكو لصديق ما أصابه: " لو أني أعرف أن البحر عميق جدا ما أبحرت.. لو أني أعرف خاتمتي ماكنت بدأت"، فتساءل ألِيس وهو في حيرة شديدة: "عجباً! في الأول طلبتَ أنْ أُخرجكَ من اليم وأنت على الشاطئ!؟ وفي المرة الثانية تسألني أن أرحل عنك وأنت من يَحجزني هنا!"، فرَدَّ عليه الطفل مؤنِباً وأمره بالسكوت ثم تابع كلامه شارحاً: إن كنت صديقي ساعدني كي أرحل عن قلوب كانت بلَوْن شراب الورد فباتت زرقاء.. خمولة.. كبحر فَقد ملوحته، ساعدني كي أرحل عن أشجار خَلَت من الحَفيف وعَشْعَش فيها نَعيق الذل والعار.. ساعدني كي أرحل عن نَخيلٍ تَعَفَّنَ بَلحه وألجأ إلى ظلال غابات جميلة لا تُثمر، كي أرحل عن عُرُنٍ مهجورة عَبَقت قوائمها ببَوْل الضِباع... وكي أرحل عن بساتين فاحت أزهارها بالدماء فمات النحل عليها وامتصت رحيقها كلاب البحار، ساعدني يا ألِيس كي أرحل عن واحاتٍ حولتموها إلى "بلاد العجائب". ثم أقبل إليّ وهو يَسْتَشيط غضباً وأمسك برأسي ونظر مباشرة في عيني وقال: قل لهم ماذا ترى؟ فحَدقتُ مَلِياً وقلت: "الموج الأزرق في عينيك يُناديهم نحو الأعمق". عندها هدأ الطفل وابتسم ومن ثم اتجه نحو ألِيس وأمسك بيده وبدأ بجذبه مع الباقين نحو البحر وكأنه يمتلك قوة 193 رجلاً!.. وهو غير آبه بأَنينهم الذي يُدوّي في الأرجاء، فقط يُردد وببرودة أعصاب: "إني أغرق.. أغرق.. أغرق". وبينما كنت أسْعى خلفه، تعثرتُ بطريق الخطأ فالتف حبل من حبال السُرَّة حول عُنُقي فَجَروني معهم وصرت أختنق والمياه آخذة بغمرنا أكثر فأكثر، عندها أغمضت عيوني وانفجرت بالصراخ وما إن عاودت فتحها حتى وجدت نفسي على الأريكة في البيت مجدداً، أُعيد بِلا وَعْيٍ: " إني أختنق.. إني أغرق..".
لحظات عصيبة، أردت بعدها أن ألتقط أنفاسي ولكن دخان السمك المحروق العابق من المطبخ كاد يخنقني أيضاً! ومن غير انتباه وجدت زوجتي تقف بجانبي فحاولت تنبيهها إلى الرائحة ولكنها كانت في حالة صدمة!.. تَدمع وتُشير بيدها إلى التلفاز!.. فتنبهت ونظرت فإذا بهم يضعون صورة لطفل يُدعى إيلان مات غرقاً ووجهه على الرمال!!! ذُهِلْت وأصابتني الرعشة وذاق لساني عرقاً ودمعاً بطعم البحر الذي كنت فيه، وبت أُتَمْتِم بصوت غارق في أغوار عجزنا: "بطريقة أو بأخرى.. كلنا غَرْقى يا عزيزتي!.. كلنا غرقى!".
&