أتذكرون عبارة "تجديد الخطاب الديني"؟ اعتقد أن الكثير منكم يذكرها بكل خير، فقد حلقت في فضاء النقاشات والجدل السياسي والثقافي والديني في السنوات الأخيرة باعتبارها مخرجاً ضرورياً، بل حتمياً من حالة التدهور الثقافي والفكري التي تعيشها الكثير من مناطق العالم العربي والاسلامي. وكنت قد عبرت وقتذاك عن أهمية الخروج من مربع النقاش إلى مربع ترجمة الأفكار إلى خطط واستراتيجيات واقعية قابلة للتنفيذ، وكنت أخشى، وقتذاك، أن نظل نراوح مكاننا ولا نفعل أكثر من النقاشات باعتبار ذلك أحد الآفات المتعارف عليها في منطقتنا.
- آخر تحديث :
الخطاب الديني وآفات النخب
والآن، وقد حدث ما كنت أخشاه ومعي كثيرون، وانزوى الحديث عن تجديد الخطاب الديني وانفض الجمع، واغلقت صفحات النقاش، وتناست معظم المؤسسات والجامعات والمراكز البحثية ما سبق أن شددت عليه بشأن الحاح وأولوية هذا الملف، لا أجد سوى التعبير عن الأسى لانحسار الجهود الفكرية والثقافية والدينية الرامية إلى استئصال الفكر المتطرف من المجتمعات العربية والاسلامية التي تشهد انتشاراً وبائياً له، وبات الأمر محصور في الجهود الأمنية والعسكرية!
اكتفت النخب الثقافية والدينية في معظم المجتمعات العربية والاسلامية بالدعوة إلى تجديد فقهي وفتح أبواب الاجتهاد و...و...الخ ولكن شىء من ذلك لم يحدث، ولم يكلف أحد أو مؤسسة أو مجموعة نفسها بوضع خطة واحدة غير تقليدية في هذا الإطار، وكل ما يقال ليس سوى ترديد لتصورات وآراء قيل بها منذ عقود بل قرون مضت ولا تصلح في مجملها كقاعدة لجهد جاد يستهدف انتشال جيل الألفية من براثن "داعش" و"القاعدة" وبقية الجماعات الارهابية.
لاشك أن أحد الأسباب التي ادت إلى البقاء في دائرة الثرثرة الفكرية يكمن في عدم وجود قناعة راسخة بدور العلم في مكافحة الظواهر المجتمعية، ولو وجدت هذه القناعة فإن مخصصات البحث العلمي لن تكون كافية لإطلاق مشروعات فكرية يفترض أنها تحتاج إلى جهد بشري ممتد وميزانيات مناسبة وبيئات جادة تحفز العلماء الحقيقيين على المشاركة في مشروعات كهذه، ولو وجد ذلك كله فلن تجد دعم سياسي يشجع هذه المهمة ويوفر لها بيئة النجاح والفاعلية المنشودة.
الأمر لا يقتصر على ماسبق، بل يشتمل على روزنامة متداخلة من الأسباب التي تتشارك في مجملها لتنتج لنا هذه الحالة العبثية او الانفعالية الوقتية، التي تتعامل مع أحد أخطر التحديات والتهديدات الاستراتيجية لمستقبل الدول العربية والاسلامية باعتبارها أولوية مؤجلة، أو لنقل أنها ازيحت من قائمة الاولويات بالمرة، وحلت محلها النقاشات التافهة التي تنشغل بها النخب بين الفينة والأخرى.
السؤال الآن: كيف تصمت النخب الفكرية والدينية والمؤسسات المعنية في عالمنا العربي والاسلامي على تجاهل قضية الفكر المتطرف وتتناسى انه يستحق علاجات فقهية جادة؟ ثم ألا يدرك الجميع أن الخطر ليس في "داعش" ولا "الاخوان المسلمين" فقط بل في أصول التطرف وجذوره؟ فلو اندحرت "داعش" ستظهر "داعش" أخرى أشد شراسة وأكثر تطوراً، هكذا تخبرنا التجارب الماضية. ولعل استقراء بسيط للعقود الأخيرة يؤكد ذللك، فمن جماعة التكفير والهجرة ذات الفكر الارهابي البسيط إلى "القاعدة" التي راوحت بين "العدو القريب" و "العدو البعيد" حتى تطورت إلى "داعش" الذي دشن بدوره فكرة "الدولة" بكل أبعاده وأخطاره، في حين كانت جماعة "الاخوان المسلمين" الارهابية تسعى للسيطرة على السلطة في دول عدة بالمنطقة ساعية إلى تحقيق الهدف الداعشي ولكن عبر وسائل وآليات أخرى!
شهدنا في السنوات القلائل الماضية مايشبه السباق أو التسابق وفي بعض الأحيان التهافت على عقد الندوات والمؤتمرات وورش العمل والمحاضرات، التي تمركزت في معظمها حول فكرة تجديد الخطاب الديني وسبل وآليات تحقيق ذلك، مع استعراض متكرر لمظاهر الأزمة الفكرية التي تعانيها منطقتنا عبر التاريخ، وكنت ـ وغيري كثيرون ـ يدركون أن هذه السباقات لن تسفر عن شىء على الأرجح، وأنها مجرد حركة في المكان او ضجيج بلا طحن للأسف الشديد، لأن البحث العلمي تحول في كثير من الحالات إلى نوع من "الارتزاق" المادي، وتخلى الكثيرون عن أهدافه السامية التي تصب في مصلحة المجتمعات والدول، وتسابق الكثيرون أيضاً إلى البحث عن الفوز بغنائم الأزمة الطاحنة بل الكارثية التي يعانيها عالمنا العربي والاسلامي جراء انتشار تنظيمات الارهاب وجماعاته.
الآن، الجميع بحاجة إلى وقفة جادة مع النفس، فالداء يستشري في جسد كثير من دول المنطقة ومناطقها، وبعد فترة ـ قد تطول أو تقصر ـ سنواجه ظواهر مثل العرب السوريين أو السوريين العرب، والعرب الليبيين، وغير ذلك على شاكلة من عرفوا سابقاً بـ "العرب الأفغان"، وسنجد أن آلاف الارهابيين الذين اعتمدوا على الارهاب وسيلة للحصول على المال باتوا بلا عمل، ويبحثون عن مصادر جديدة للحصول على الأموال، وسيتحولون إلى مصدر تهديد حقيقي لدولهم وشعوبهم، وقد نفاجىء بانتقالهم إلى دول وأماكن أخرى، فهل نفيق؟ ومتى؟.
هل هناك استراتيجيات واضحة للتعامل مع مصادر الخطر المحتملة في منطقتنا على المستوى الفكري؟ اعتقد أن الاجابة في معظم الحالات هي "لا" قاطعة، إذ يبدو أن التصدي للفكر المتطرف فكرياً ودينياً وثقافياً قد تحول إلى كرة لهب يتقاذفها الجميع وترميها كل مؤسسة باتجاه الأخرى، ويكتفي الجميع بدعوة بعضهم البعض إلى هذه المهمة الوطنية المصيرية، أو هكذا أراها شخصياً!
التعليقات