&سوريا، من الدول القلائل ربما الوحيدة في المنطقة ومنذ قبل استقلالها الغت تحديد (الدين والمذهب) من بطاقة الهوية الشخصية لمواطنيها. كانت خطوة متقدمة ومهمة على طريق تحقيق الاندماج الوطني بين مختلف الأقوام السورية، وبناء الدولة المدنية الحديثة (دولة المواطنة) على النموذج الأوربي، تنتفي فيها كل مظاهر وأشكال التمايزات، الطائفية والدينية والعرقية والمذهبية. بعد سبعة عقود مرت على استقلال سوريا، بات المجتمع السوري أكثر تفككاً وانقساماً على نفسه، حيث غدت الطوائف والأقوام والملل السورية" شبه أمم "، تهدد وحدة وبقاء الكيان السوري. رغم الشعارات الوطنية التقدمية والخطابات القومية العربية، التي تميزت بها "الحقبة الأسدية"، انتكس المجتمع السوري وارتدت الحالة السورية أكثر فأكثر نحو المذهبية والطائفية والعرقية. انقلاب حافظ الأسد على السلطة 1970 واحتكاره لها واعتماده على المقربين منه وعلى العنصر الأقلياتي عموماً في تقوية نظامه وتثبيت سلطاته ومن ثم توريث الحكم لابنه بشار، أنتج فكراً طائفياً /مذهبياً في المجتمع السوري. ولدَ غبناً لدى الغالبية العربية السنية على ما تراه بأن الدولة السورية خُطفت منها من قبل الأقلية العلوية. بيد أن "الانتكاسة الوطنية" الكبيرة، التي مني بها المجتمع السوري تعود الى ما قبل انقلاب الأسد. تعود الى السنوات الأولى من عمر الدولة السورية المستقلة، حيث انغمست الأغلبية العربية، بالقضايا والمسائل القومية العربية وبالقضايا الاسلامية، كذلك بالمحاور الاقليمية والدولية، على حساب المسائل والقضايا الوطنية السورية. الأغلبية العربية، ممثلة بتياراتها السياسية والفكرية والقومية، لم تكن تعطي أي اعتبار او وزن للقضايا والمسائل الوطنية السورية إلا بمقدار ارتباطها بالقضايا العربية وتشابكها معها.

ربما، من أبرز مفارقات المشهد السياسي السوري، أن الأقليات، بكل هوياتها وانتماءاتها، كانت ومازالت، الحامل الرئيس لمشروع الدولة المدنية (دولة المواطنة)، وهي المتمسكة بسوريا كوطن نهائي لكل السوريين، فيما الأغلبية العربية، السنية تحديداً، انشغلت بمكافحة الهويات الخاصة للأقليات، خاصة تلك التي لها طموحات وتعبيرات سياسية، والسعي لتذويبها في الهوية العربية. ليس تحاملاً على العرب السنة القول، بأنهم هم من أسقط وأفشل مشروع الدولة الوطنية المدنية في سوريا. القوميون منهم والاسلاميون، أثاروا الشكوك بنوايا وأهداف الأقليات مشروع الدولة الوطنية، الذي تطلعت اليه الأقليات وسعت لتحقيقه نخبها، السياسية والثقافية والفكرية، خاصة المسيحية منها، متأثرة بالأفكار التنويرية وشعارات الحرية والديمقراطية للثورة الفرنسية، التي نقلها المستعمر الفرنسي الى سوريا والمنطقة. القوميون العرب اعتبروا الدولة الوطنية، خطراً على مشروعهم القومي العربي وتقويضاً له. الاسلاميون اعتبروا الدولة المدنية، خطراً على الهوية والثقافة الاسلاميتين. اثبتت تجارب التاريخ، بأن الأقلية، مهما بلغت من التقدم والوعي الاجتماعي الحضاري، لا يمكن لها أن تُحدث تغيراً نوعياً وتحولاً كبيراً في حياة الدولة والمجتمع، ما لم يحظ هذا التحول بدعم وتأييد الأغلبية العددية. طبعاً، لا ننفي وجود بين العرب السنة من كان يتطلع لدولة وطنية مدنية ديمقراطية، يُحيد فيها الدين والقومية عن السياسية، لكن هؤلاء كانوا ومازالوا اقلية محاصرة وسط غالبية سنية رافضة للدولة المدنية الليبرالية. سوريا، مازالت بنظر القوميين العرب، مجرد (قطراً) يُنتظر زواله واندماجه في كيان عربي واحد يضم بقية الأقطار العربية. تجدر الاشارة هنا، أن كلمة (سوريا) لم ترد ولو لمرة واحدة في الدستور القومي لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم لسوريا منذ 1963. التزاماً بهذه الاستراتيجية القومية، تنازل القوميون العرب عن الدولة السورية وفرطوا بالحقوق الوطنية للشعب السوري، بضمهم سوريا لمصر، باسم (الجمهورية العربية المتحدة) 1958 برئاسة الرئيس المصري (جمال عبد الناصر)، الذي لم تروق لها "الهوية السريانية" المسيحية، لمدينة القامشلي، عندما زارها 1959، علماً أن "السريانية" هي الهوية الوطنية لسوريا التاريخية. وقد أوصى عبد الناصر أنصاره بضرورة تقويض الوجود السرياني (الآشوري) والمسيحي عموماً في مدينة القامشلي، هذا ما حصل بالفعل. رغم تأكيد المعارضات السياسية المناهضة للدكتاتورية الأسدية، على أن هدفها هو الانتقال بسوريا الى دولة مدنية ديمقراطية تعددية (دولة مواطنة)، لكن تبدو فرص تحقيق هذا التحول ضعيفة أو بالأحرى معدومة على المدى المنظور. فالحرب السورية، أعادت المجتمع السوري عقود وربما قرون الى الوراء. لم يعد من الممكن، اختيار مسيحي لرئاسة المجلس النيابي أو لرئاسة الحكومة، مثلما حصل في بداية عهد الاستقلال مع فارس الخوري. لقد ولى، زمن فوز شيوعي كردي بأصوات الكتلة الانتخابية الأكبر، أي العرب السنة، عن مدينة دمشق، مثلما حصل مع (خالد بكداش) في انتخابات 1954 النيابية.&

بعد أن تدخلت وبشكل مباشر أيران الشيعية وميليشياتها (حزب الله) الى جانب النظام في الحرب السورية، تضاعفت مشاعر الغبن والكراهية لدى العرب السنة. بالمقابل الحرب عمقت مخاوف الأقليات من ان تدفع ثمن جرائم النظام، بعد أن باتت متهمة من قبل الأغلبية العربية السنية بالوقوف الى جانبه في حربٍ تعتبرها "حرباً شيعية عليها". الخوف من حصول اعمال انتقامية جماعية من قبل التنظيمات والمجموعات الإسلامية السنية المسلحة بحق الأقليات، دفع ببعض أبناء الأقليات، خاصة من أبناء الطائفة العلوية التي ينتمي اليها بشار الأسد، للمطالبة بـ"حماية دولية" للأقليات السورية. ثمة معطيات ووقائع على الأرض تبرر مخاوف الأقليات. فقد حصلت أعمال انتقامية متبادلة في أكثر من منطقة سورية، وإن كانت محدودة، آخرها (مجزرة زارا) العلوية. وقد عبر العديد من قادة الدول المعنية بالأزمة السورية، بينها أمريكا ودول أخرى صديقة للمعارضة، عن مخاوفها وخشيتها من انزلاق سوريا الى حرب أهلية طائفية مفتوحة، إذا ما حصل فراغ وفوضى في البلاد. لهذا، تشدد هذه الدول على أهمية خيار المفاوضات والحلول السياسية للمعضلة السورية. من رحم الحرب العالمية الثانية خرجت الدولة السورية بشكلها وتركيبتها وبحدودها السياسية الدولية المعروفة. من بين ركام الحرب السورية الراهنة، وتحت ضغط غبن الأغلبية العربية السنية ومخاوف الأقليات، ستولد سوريا جديدة. لن تكون كما سوريا القديمة، ما قبل الحرب. ستختلف عنها بشكلها وتركيبتها وهويتها وبنظامها السياسي والاقتصادي والتربوي. المطروح اليوم لسوريا الجديدة. مقاطعات او كانتونات ذاتية. فدرالية. كنفدرالية. اللامركزية الادارية. اللامركزية السياسية. التقسيم. الأكراد، بإعلانهم الفدرالية، فتحوا شهية بعض المكونات (الأقليات) الأخرى على البحث عن مستقبلهم ورسم خرائطهم في سوريا الجديدة.&

&

باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات

[email protected]