مع مرور مئة عام بالكمال والتمام على اتفاق سايكس بيكو الشهير الذي قسم المنطقة العربية ورسم حدود الدول الوطنية الحديثة في العالم العربي، تبدو مراكز الأبحاث وصناع القرار في القوى الكبرى معنية اليوم ببحث مستقبل هذا الاتفاق ومدى صلاحية تمديد العمل به بعد مرور مئويته الأولى!
واقع الحال أن الحروب الأهلية التي اندلعت في السنوات الأخيرة في عدد من الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن صعود حركات تتغذى أساساً من "ظاهرة التطرف الإسلامي"، تشكل تحدياً للبنية السياسية الحالية للمنطقة ولسيادة الدولة. فمن الصعب افتراض إمكان إعادة استتباب النظام القديم، وفي ضوء الواقع الإثني والديني المستجد، فإن المطلوب هو نظام جديد أكثر تمثيلاً، لكن من المهم في المقابل الامتناع عن خلق دول صغيرة، قدرتها على البقاء اقتصادياً وسياسياً ضئيلة للغاية.
دراسة جديدة صادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب لمناسبة مرور مئة عام على اتفاق سايكس- بيكو (1916)، أعدّها ثلاثة باحثين من المعهد هم إيتمار رابينوفيتش وروبي سيبل وعوديد عيران، أكدت أنه قد تكون ثمة ضرورة للجمع بين إعادة رسم الحدود وبين هيكليات سياسية جديدة لم يسبق استخدامها في هذه المنطقة، مثل الفدرالية أو الكونفدرالية. ومع ذلك، يبدو أن الأقليات والفصائل والحركات المتنازعة لم تصل حتى الآن إلى مرحلة الاستعداد لدرس ترتيبات دائمة سياسية جديدة في بيئتها الجغرافية، وأقل من ذلك استعداداً لرسم حدود جديدة. ولعل الظروف الحالية ليست ناضجة لهذا الأمر، بل أكثر لعله من غير المرغوب فيه حالياً أن يجري بشكل علني مناقشة تعديل متفق عليه للحدود الحالية واستبدال النظام القديم القائم على حكومة مركزية بمنظومة حكم مختلفة. وبنفس المقدار من غير المجدي الافتراض أن القوى المحلية المتصارعة في منطقة الشرق الأوسط ستكون مستعدة للعودة إلى الوضع القائم الذي كان سائداً قبل الحرب.
لقد أضحى مشهد مندوبي قوتين كبيرتين خارجيتين يعقدان لقاء سرياً ويتقاسمان المنطقة بين دولتيهما ويكرسان ذلك في اتفاقات دولية، مستبعداً في الزمن الحالي. ومع ذلك، كي يكون هذا الاتفاق احتمالاً
وارداً، فهناك حاجة إلى اتفاق مبادئ أولي بشأن تغيير بنية المنطقة بين اللاعبين الرئيسيين الخارجيين. ومن وجهة نظر الدراسة، فإن سورية والعراق يمكن أن يصبحا دولتين كونفدراليتين، من دون تعديل حدودهما الخارجية الحالية. أمّا الحدود الداخلية فيمكن تحديدها بصورة عامة، والاتفاق على التفصيلات في مفاوضات تجمع الجهات التي من المتوقع أن تكون جزءاً من الهيكلية السياسية الجديدة/ الدول الفدرالية الحديثة. ومن شأن "سايكس - بيكو جديد" أن يشمل أيضاً تقسيماً واسعاً بين قوة المركز وقوى الوحدات المكونة للدول الفدرالية.
كما سيكون من الضروري منع اللاعبين الإقليميين من تخريب مخطط الاتفاق المقترح، ضمن محاولة للإيقاع بين القوى الكبرى الخارجية من أجل إدامة الفوضى في المنطقة. وتالياً، هناك ضرورة حيوية للتوصل على الأقل إلى تفاهم واسع واتفاق عام بين الولايات المتحدة، وروسيا، والاتحاد الأوروبي. وفقط عندئذ ستنضم الدول الرئيسة في المنطقة: مصر؛ السعودية؛ الأردن؛ إيران؛ تركيا. وفي المرحلة الثالثة، سيُطلب من بعض اللاعبين المحليين إعطاء موافقتهم على المخطط المقترح.
إحدى نقاط الاختلاف الأساسية بين عام 1916 وعام 2016 تكمن في عدم وجود قوة عظمى خارجية قادرة على فرض تسوية حتى لو كانت تسوية متفقاً عليها في المجتمع الدولي. وفي هذا السياق، فإن عدم استعداد لاعبين رئيسيين من خارج المنطقة لنشر قواتهم العسكرية في الميدان يحرمهم من أداة فعل رئيسة. ومع ذلك، فإن منع وصول أسلحة إلى أيدي تنظيمات تعارض تسوية سياسية، ومنع انضمام متطوعين جدد إلى القوى المحلية، فضلاً عن تدمير ترسانات ومخازن الأسلحة، من شأنه أيضاً أن يسرع الاستعداد لإجراء تسويات.
لعله من السابق لأوانه إعلان "سايكس - بيكو" جديد، لكن آن الأوان كي يناقش اللاعبون الدوليون معالم نظام جديد في منطقة الشرق الأوسط يبقي على أجزاء حالية من النظام القديم لا تزال ذات صلة، ويضيف إليها مكونات جديدة، بهدف الاستجابة لتغيرات جارية في المنطقة خلال المئة عام الأخيرة، بحسب الدراسة الإسرائيلية.
ولدى تطرق الدراسة إلى المنظور الإسرائيلي- الفلسطيني، قالت: من الواضح إنه في إطار البحث عن نظام إقليمي جديد، لا يستطيع المجتمع الدولي تجنب التطرق إلى النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. فانهيار النظام القديم في قلب منطقة الشرق الأوسط ولّد تأثيرات متضاربة في الطريق المسدود بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولا ريب في أنه يصعب تصور إقدام حكومة إسرائيلية على مجازفات في الظروف الإقليمية الحالية، ومع ذلك فإن التطورات الحالية فتحت مجالاً جديداً لأفكار وحلول خلاقة. وينبغي للإسرائيليين&والعرب على حد سواء تذكر حقيقة أن نظام سايكس- بيكو كان من فعل قوى خارجية تدخلت في المنطقة. واليوم، بعد مرور مئة عام على هذا الاتفاق، لدى شعوب المنطقة فرصة كي يصنعوا تاريخهم بأنفسهم، من دون أن تبين كيف ومن سيقوم بذلك، ومن من الرعاة الدوليين سيكون قادراص على رعاية اتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين يكون مرضياً للطرفين!
تبدو الفرصة مواتية بالنسبة لكثير من القوى الإقليمية والدولية لإعادة ترسيم حدود المنطقة باتفاق جديد لن يكون الخاسر منه سوى شعوب المنطقة بطبيعة الحال، لكن النظام الجديد الذي يرى المتابعون حاجة المنطقة إليه، يأخذ في عين الاعتبار تجزئة أكبر قدر من ممكن من دولنا الوطنية المفتتة أصلاً، والمهترئة بانتظار المزيد من التقسيم!
&
&كاتب وباحث
التعليقات