&

في انجيل متّى نقرأ:”العين مصباح الجسد". . .

وماذا ترى العين في بلاد الشرق، في هذا الزمن الموحش، زمن الأحقاد والضغائن، والخراب؟

"ربيع عربيّ" مبشّر بالديمقراطيّة، وبعصر جديد ذوى بسرعة مثلما تذوي الزهرة حال تفتحها، ليحل شتاء آخر أشدّ عسرا من ذي قبل. شتاء مثقل بالمخاوف والمخاطر، وبظلمات أكثر وحشة من ظلمات عصور الإنحطاط!

وبآسم الإسلام، تصادر الحريات العامة والخاصة، ويعاقب المثقفون والفنانون والنساء بتهمة "المسّ من المقدسات"، ويهانون، ويكفّرون، بل ويذبحون، ويتمّ التمثيل بأجسادهم. ورافعين الكتاب، يقوم حرّاس التعصّب والتزمت بالحثّ على العنف والإرهاب، وبترويع الناس، وبنشر ثقافة تثير الفزع والقشعريرة حتى لدى من رحلوا الى العالم االآخر!

والمسيحيون في العراق، وفي سوريا، وفي مصر، وغيرها، يواجهون محنا ومصائب لم يسبق لها مثيل، مع أنهم لم يأتوا مع الصليبيين، ولم يجئ بهم الإستعمار كمبشرين، وإنما هم أبناء أرض العرب منذ آلاف السنين. وعلى هذه الأرض عاشوا متشبثين بعقيدتهم، وبعاداتهم وتقاليدهم، وأصولهم. وإذن لا تحتاج شرعيّتهم التاريخيّة الى إثبات من أيّ كان. فهي أقوى وأمتن من شرعيّة أقلية أو أغلبيّة أخرى. غير أن "الطهرانيين الجدد"يرفضون الإعتراف بهذه الحقيقة، وينكرون أن المسيحيين العرب لعبوا أدوارا مهمة في مختلف العصور الإسلاميّة، سواء كان ذلك في ظلّ الخلافة الأمويّة، أو العباسيّة، أو العثمانيّة، أو في الأندلس، او في صقليّة. فقد كان منهم مفكرون، ومعماريّون، ومستشارون، ومصرفيّون، وعلماء، وفلاسفة، وشعراء، وموسيقيّون. وبتأثير منهم تعلم عرب الصحراء فضائل مدنية وحضارية كثيرة ومتنوعة.

بعد غزو المغول لبغداد في عام 1258، لم يكن تاربخ العرب، سواء في المشرق أم في المغرب، غير سلسلة من الكوارث والمحن المتعاقبة. وعلينا أن ننتظر القرن التاسع عشر لكي يشهد العالم العربي ما أصبح يسمى ب"اليقظة، أو "النهضة". وكان المسيحيّون العرب أول من بشر بذلك، منتصرين لأفكار الإصلاح والتحديث والرقيّ. وكانت لهم الجرأة في آنتقاد كلّ مظاهر التعصب والتحجر. وفي الصحف والمجلاّت التي أنشؤوها، كانوا يحثّون الناس على الثورة على طغيان السلاطين العثمانيين. وكان بطرس البستاني "1819-1883) الذي ينتمي الى عائلة لبنانيّة بروستانتينية أول هؤلاء. ومؤمنا أن التعليم هو أساس تقدم الشعوب ورقيّها، فتح مدارس للمسيحيين والمسلمين لكي يتعلموا مبادئ الحضارة الحديثة متمثلة في العلوم وفي اللغات الحيّة. كما أنشأ أول دائرة للمعارف في زمن كانت فيه الأميّة طاغية ومهيمنة بشكل مريع. وكان يرى أن اللغة العربية هي الاداة المثلى لتوحيد العرب، وإزالة الفرقة بينهم شعوبا وقبائل وطوائف ومللا ونحلا. وكان السوري فرانسيس مرّاش(1836-1873) طبيبا وكاتبا وشاعرا. وبعد اقامة في باريس، عاد الى مسقط رأسه حلب ليجاهر بتعاطفه مع الثورة الفرنسية، مبديا اعجابه بفلاسفة الأنوار، فولتير، وروسو، وديدرو. وفي مجمل كتاباته، تجرأ على الثورة على النواميس القديمة، وعلى الأساليب البائدة، متحديا الأوزان الخليلية ليكتب القصيدة النثرية. وكان اللبناني شبلي شميل(1850-1917) الذي دَرَسَ في باريس مفكرا تنويريّا بالمعنى الحقيقي للكلمة. وفي الصحف التي انشأها، دافع بقوة عن نظرية داروين في نشوء الإنسان، وعن أفكار ماركس وبرودون الإشتراكية، داعيا الى العدالة والمساواة، والتقدم. ومعتبرا أن التعصب الديني هو أساس كل محن بلاد العرب، نادى بضرورة فصل الدين عن الدولة. وكان يقول:”لا حرية، ولا عدالة، ولا مساواة، ولا تمدن، ولا رقيّا، ولا حياة سياسية سليمة من دون فصل الدين عن كل مظهر من مظاهر الحياة السياسية". وفي عام 1914، أسس مع صديقه المصري القبطي سلامة موسى(1887-1958) جريدة"المستقبل". غير أن هذه الجريدة سرعان ما صودرت بسسب الإنتقادت اللاذعة التي كانت توجهها الى السلطات السياسية والدينية.

مع مطلع القرن، فرارا من الطغيان العثماني، ومن بؤس الحياة الإجتماعية والثقافية، ومن النزاعات الدينية والطائفية، هاجر شبان لبنانيون مسيحيون الى الأمريكيتين. وفي عام 1920، أنشؤوا في نيويورك "الرابطة القلميّة" التي كان جبران خليل جبران رئيسا لها. ومن خلال المجلات التي أصدرتها، عملت هذه الرابطة على تجديد اللغة العربية، وتحديث آدابها نثرا وشعرا. كما عرّفت بكبار أدباء الغرب، خصوصا بالرومانسيين. وكان تأثير جماعة هذه الرابطة، أو "أدباء المهجر" كما يسمون هائلا على جلّ الحركات الأدبية التي بدأت في النشوء والظهور في مختلف الأقطار العربية. وفي القاهرة، وبيروت، ودمشق، وبغداد، وتونس، وغيرها، برز شبان كان كل واحد منهم يحلم أن يكون "جبرانا" في بلاده. وتلك كانت حالة الشاعر التونسي ابو القاسم الشابي الذي توفي عام 1934. وكان في الخامسة والعشرين من عمره.

ولم تلبث الأفكار الإصلاحية والتنويرية التي روّجها المسيحيون العرب أن أشعت على النخب العربية من اصول اسلامية. وكان القرن التاسع عشر يقترب من نهايته لما أصدر المصري قاسم امين(1863-1908) كتابا يدعو فيه الى تحرر المرأة، والى تحطيم القيود التي تكبلها لكي تتمكن من المساهمة الفعلية في الحياة الإجتماعية والتربوية. وقد أثار الكتاب هيجان شيوخ جامعة الأزهر فتصدوا له ولصاحبه بالإنتقادات الجارحة. وفي عام 1904، أصدر الشيخ عبد العزيز الثعالبي (1874-1943) كتابه:”روح التحررفي القرآن"، وفيه دعا الى ضرورة نزع الحجاب عمن المرأة، والى الإنفتاح على الحضارة الغربية لأن القرآن"كتاب تحرر وليس كتابا للإستعباد". غير أن شيوخ جامع الزيتونة عارضوا بشدة أفكار الشيخ الثعالبي الذي مَثَل في النهاية أمام القضاء ليمضي ثلاثة أشهر في السجن. كما كانت أفكار التحديث والتنوير ذات تأثير على د. طه حسين في كتابيه"في الشعر الجاهلي"، و"مستقبل الثقافة في مصر، وأيضا على علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم". وعلينا ألا نغفل عن الادوار الخطيرة التي لعبها المسيحيون العرب في مقاومة الإستعمار الفرنسي والبريطاني، وفي التصدي للمخططات الصهيونية والإمبريالية.

غير أنه يبدو الآن أن كل هذه الإسهامات، وكل هذه الأعمال الرائعة نسيت، وأهملت، وتمت مصادرتها. وثمة من يعمل في الخفاء وفي العلن على محو آثارها. وفي القاهرة، وصحراء سيناء، وفي سهول نينوى العارية في العراق، وفي قرى صغيرة في سوريا يقوم المتعصبون بقتل المسيحيين العرب، ويذبحهم بدم بارد، وبآغتصاب نسائهم، وترويع أطفالهم، وتدمير معالمهم الدينية والثقافية، وتخريب بيوتهم، وآفتكاك مزارعهم وممتلكاتهم. ولا هدف من هذه الجرائم الفظيعة غير محو كلّ أثر لهم في بلاد العرب، وإبطال شرعيتهم التاريخية، واجبارهم على الهجرة والتشرد. وأمام هذه المأساة، نحن لا نسمع أصواتا كثيرة بين المسلمين العرب تدين هذه الجرائم، وتطالب بحلول سريعة لهذه المحنة التي يتعرض لها اخوانهم المسيحيين. وأما الدول الأوروبية فتقتصر على تقديم المساعدات االإنسانية، وعرض حق اللجوء على الضحايا الذين يعدون بالالاف. لذلك يزداد المتعصبون وحشية وعنفا وقسوة ماضين قدما في تحقيق مخططهم الإجرامي. وإذا ما توصلوا الى بلوغ هدفهم، فإن بلاد العرب سوف تعرف أفظع كارثة حضارية وثقافية وعقائدية لم يسبق لها في مثيل في جميع العصور والدهور.