شرع الإنسان يتطور إجتماعياً قبل خمسة ملايين سنة. فمن المثير حقاً والمستهجن أشد الإستهجان أن الإنسان ما زال حتى اليوم في القرن الحادي والعشرين للميلاد وبعد خمسة ملايين سنة من بداية الوعي يجهل أسباب تطوره الإجتماعي!! وكيلا يُتهم مثل هذا الإدعاء بالتعسف والاعتباط، يقوم التساؤل عن الأسباب الحقيقية وراء تطور الحياة البشرية في القرن العشرين بصورة مميزة، أكثر بكثير مما تطورت في غيره من القرون!! تطورت الحياة الاجتماعية عبر عشرات القرون وكل قرن كان يبني على ما خلفته له القرون السابقة. القرن العشرون بنى أيضاً على ما خلفته القرون السابقة لكنه أضاف كثيرا من الأبنية الأخرى التي لم تكن متوقعة. أن يكون هناك ألف جواب وجواب على مثل هذا التساؤل البسيط والطارئ فذلك يعني في النهاية أن التطور الإجتماعي ما زال مجهولاً، مجهول الهوية والأسباب. الجهل بأسباب وعوامل التطور الإجتماعي هو أشبه بمسافر لا يعرف أين سينتهي به السفر، وهذا أمرٌ حقيق بالإستهجان، فليس أحق من الإنسانية أن تعلم مسبقاً عن محطة وصول قطار التطور التي سينتهي إليها.

للإستدلال على الجواب الصحيح لهذا التساؤل الجوهري والبسيط بنفس الوقت يلزم إلقاء نظرة إجمالية سريعة على ما بات معروفاً من تاريخ التطور الاجتماعي للبشرية حتى اليوم.&

بدأ الإنسان يعي تاريخه أثناء مرحلة العبودية وكان ذلك قبل حوالي ستين قرناً كما تدلنا الآركيولوجيا. بدأ النظام العبودي بالتفكك في القرن الخامس بعد الميلاد أي أن مرحلة العبودية أمتدت لأكثر من 45 قرناً وما كان ذلك إلا لأن عوامل التطور الإجتماعي كانت ضعيفة الفعالية للغاية. تلا ذلك مرحلة الإقطاع وقد امتدت لعشرة قرون فقط، حيث بدأت تتشكل بعد القرن الخامس بعد الميلاد وبدأ الإقطاع بالتفكك في القرن الخامس عشر، وهي مرحلة قصيرة بالنسبة إلى مرحلة العبودية ؛ وما كان ذلك ليكون لولا الفعالية الزائدة لعوامل التطور الإجتماعي. وأخيراً جاء النظام الرأسمالي في القرن السادس عشر وانتهى في القرن العشرين، أي أنه عمّر أربعة قرون فقط أي أقل من نصف عمر النظام الإقطاعي ؛ يعود ذلك بالطبع إلى النشاط المتزايد لعوامل التطور الإجتماعي في النظام الرأسمالي الذي يدعو كافة القادرين على العمل حتى من النساء والأطفال إلى الإنخراط في تشغيل ألمكائن وأدوات الإنتاج.&

مثل هذا الاستعراض السريع لمراحل تطور المجتمعات البشرية يدلنا بصورة لا شبهة فيها على أن هذا التطور الاجتماعي يتقدم متسارعاً حتى بلغ السرعة القصوى في القرن العشرين. الاستدلال الصحيح على الأسباب الحقيقية للتطور الاجتماعي وتسارعه يصطدم بعقيدة مثالية شائعة تهبط على الأرض من السماء وتتمثل في دعاوى فريقين. فريق قديم قدم عصور التخلف ما زال يدعي بأن ثمة إلهاً في السماء يدير مختلف مناحي الحياة الدنيا توطئة لحياة أخرى مزعومة كما ورد في الرَوِيّ التوراتي المنقول عن الأساطير البابلية. وفريق آخر يقول أن الإنسان يتميز بالتفكير والفكر الحر هو ما يتسبب بكل هذا التطور. لكن أياً من الفريقين لم يقدم تفسيراً للتسارع في التطور الاجتماعي، فإله الفريق الأول وعقل الفريق الثاني كانا موجودين منذ الأزل ومع ذلك امتد عهد العبودية لأكثر من 25 قرناً بينما انقضى عصر الرأسمالية في أربعة قرون فقط.&

يكفي مثل هذا الاستعراض السريع لتاريخ البشرية للإستدلال على أن قوى الإنتاج دون غيرها هي ما ينقل البشرية من حالة ألى حالة أخرى مختلفة، من نظام إجتماعي إلى نظام أجتماعي آخر يعتمد على وسائل إنتاج مختلفة، علاقات الناس بعضهم ببعض مختلفة، أفكار مختلفة، عادات وقيم مختلفة، وحتى ملابس وأطعمة مختلفة. قوى الإنتاج هي أدوات الإنتاج (Instruments) كما سماها ماركس كطرف، والإنسان العاقل كطرف أخر. في عصر العبودية كان الله موجوداً والإنسان العاقل موجوداً أيضاً لكن أدوات الإنتاج كانت في غاية الفقر، لم تتعدَ الرفش والمعول ولذلك عمّرت العبودية 25 قرنا. وحين تحولت الزراعات الإفرادية الضيقة، البستنة (Horticulture) المعتمدة على الرفش والمعول، إلى زراعات حقلية واسعة اعتمادا على محراث خشبي تجره الحيوانات انتقلت البشرية إلى عصر الإقطاع. وحين تعرف غرب أوروبا على النول البخاري والمحرك الكهربائي تم الإنتقال إلى النظام الرأسمالي الذي لم يعمّر لأكثر من أربعة قرون.

&يجادل كثيرون على أن النظام الرأسمالي لم ينهر بعد، ويدعي بعضهم أن الرأسمالية ذات قدرة متميزة على البقاء فبُعثت من جديد في العولمة. لا يقول مثل هذه الأقوال السخيفة غير الذين لا يعرفون ماهية النظام الرأسمالي الذي مات دون أن يعلموا. فالدول الرأسمالية الكلاسيكية تحمل اليوم أكثر من 65% من ديون العالم البالغة حوالي 75 ترليون دولاراً علماً أن الميّزة اللازمة للنظام الرأسمالي أو الأحرى طينة بنائه هي خلق الأموال الجديدة كل يوم وليس استهلاكها. فكيف يمكن أن تكون الولايات المتحدة الأميركية دولة رأسمالية إمبريالية وهي مدينة للخارج بعشرين ترليون دولاراً فائدتها السنوية أكثر من 250 مليار دولار لا تقوى على تسديدها وهو ما يدفع بها إلى شفا الإفلاس!؟ كيف تكون الولايات المتحدة رأسمالية وهي اليوم أكبر مستورد للبضائع ورؤوس الأموال في العالم علماً بأن نظام الانتاج الرأسمالي يتأسس فقط على إنتاج البضاعة!؟ الإتجار بقوى العمل (Labour Power) المتجسد في البضاعة فقط الذي يمارسه النظام الرأسمالي هو خلاصة هذا النظام وليس الإتجار بالمعرفة كما يزعم البعض فالمعرفة ليست سلعة تُمتلك وتُستهلك ولا قيمة تبادلية لها.

الجهل الصارخ في أسباب وعوامل التطور الاجتماعي هو ما يستدعي كل المزاعم السخيفة المناقضة للحياة نفسها حول الرأسمالية التي لا تتطور حتى لا تموت!! ذات الشيء فيما يخص ثورة التحرر الوطني التي ملأت فضاء العالم خلال ربع قرن مزدحم بالأحداث 1946 – 1972. لماذا نجحت عشرات الدول في تحقيق استقلالها آنذاك ولم تنجح خلال قرن طويل 1850 – 1950!؟

انتظر العالم ستة آلاف عام حتى جاء كارل ماركس في القرن التاسع عشر (1818 – 1883) وكشف عن أسباب وعوامل التطور الاجتماعي التي بفعلها وحدها تنتقل المجتمعات من حالة إلى أخرى مختلفة نوعياً. تخصص ماركس بداية بالفلسفة واستقر نهائياً على علم المادية الديالكتيكية وهو "الفلسفة" التي تُجبَ كل الفلسفات السابقة التي اعتمدت جميعها على التخمين والتبصر (Speculations & Conjectures) وليس على البحث العلمي الذي لا يتعاطى بغير الأشياء المادية المحسوسة.

إكتشف ماركس أن سداة التطور الإجتماعي هي العلاقة الديالكتيكية التبادلية بين طرفي التناقض، الإنسان من جهة والآلة من جهة أخرى. يتم الإنتاج فقط عندما يكون هناك اشتباك بين طرفي التناقض ويستقبل كل طرف فعل الطرف الآخر، فتكون النتيجة ليس الإنتاج المادي فقط بل وتطور الطرفين معاً. في قانون التطور عندما يتعذر التطور الكمّي تكون هناك ثورة وتطور نوعي، أي ينتفي طرفا التناقض القديم ويبيدان ليحل محلهما تناقض جديد. في الإنتقال من العبودية إلى الإقطاع حل المحراث الخشبي تجره الحيوانات محل الرفش والمعول وحل القن محل العبد، وفي الانتقال من الاقطاع إلى الرأسمالية حل المحرك البخاري والكهربائي محل المحراث الخشبي وحل البروليتاري محل القن. وهكذا فإن قانون التطور المتسارع لا بدّ أن ينقل النظام الرأسمالي إلى نظام آخر مختلف بعد دخول العالم عصر التقنيات الرفيعة، إلى "اللانظام"، إلى الشيوعية كما باستشراف ماركس.&

في العام 1847 أطلق ماركس صرخته المدويّة " يا عمال العالم اتحدوا فلن تفقدوا إلا أغلالكم! " مستهدفاً تفكيك النظام الرأسمالي في ثورة بروليتارية شيوعية، لكن عمال العالم لم يكونوا على قدر الحمل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. في العقد الثاني من القرن العشرين قامت حرب عالمية شاملة بين الدول الرأسمالية في أوروبا بهدف إعادة تقسيم الأسواق امتدت الحرب لأربع سنوات (1914 – 1918) أنهكت جميع المشاركين فيها. إذاك تهيأت الظروف للبلاشفة الروس بقيادة لينين لإعلان الثورة الاشتراكية العالمية في السادس من مارس آذار 1919 التي كان ماركس قد تحدث عنها قبل سبعين عاماً. أربع عشرة دولة رأسمالية أرسلت تسعة عشر جيشاً إلى روسيا "لخنق البولشفية في مهدها" لكنها اُرتدت خائبة مهزومة. نجح البلاشفة بقيادة ستالين في تطوير المشروع اللينيني حتى كان هو وحده من قرر ليس نتيجة الحرب العالمية الثانية فقط بل ومصائر العالم حتى يومنا هذا أيضاً.&

تبعاً لانتصار الاتحاد السوفياتي المؤثل انطلقت ثورة التحرر الوطني تعصف بقواعد النظام الرأسمالي في العالم. فاستقلت سوريا ولبنان في العام 1946 واستقلت الهند في العام 47 ثم الصين في العام 49 وفي العام 1952 كان من بين قرارات المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي السوفياتي بقيادة ستالين قرار يقول بنهاية النظام الامبريالي في وقت قريب. في العام 1971 وجدت إدارة نكسون أن الولايات المتحدة لم تعد تنتج دولارات إضافية وهو ما ينذر بانهيار النظام الرأسمالي فكان عليه أن يصدر دولارات غير مغطاة كي ينفق على حربه في فيتنام. ذلك ما استلزم الانسحاب من معاهدة بريتونوود وتدهو قيمة الدولار في أسواق الصرف – من سخرية الأقدار أن الولايات المتحدة هي نفسها التي دعت إلى عقد معاهدة بريتونوود في العام 1944 كيلا يظهر هتلر آخر يطبع عملة مكشوفة للإنفاق على الحرب وهي نفسها أول من ينسحب منها في العام 1971 لتطبع دولارات مكشوفة لتنفق على حربها في فيتنام!!

الدول المحيطية في العالم استقلت ولم تعد مصرفاً لفوائض الإنتاج في مراكز الرأسالية. ولذلك وجد زعماء الدول الرأسمالية الكبرى الخمسة (G 5) المجتمعون في رامبوييه 1975 ألا مندوحة عن الاعتراف بنهاية النظام الرأسمالي الذي لا يستمر بغير التخلص من فائض الإنتاج خارج الحدود، لكنهم زعموا كذباً أن القيمة الكبرى التي أهلتهم لسيادة العالم تكمن في نقودهم الصعبة وليس في البضاعة مع أنه حتى الأطفال يعلمون أن النقود ليست إلا التعبير المعياري لقيمة البضاعة.

نقل القيمة من البضاعة إلى النقود ليس إلا ضرباً من ضروب الجهل بعوامل التطور الاجتماعي.

&

(يتبع)