أول ما يبادر به المختلقُ لمحاربة المتجذر هو البدء&

بهدم كل رموزه ومن ثم نشر علاماته ليأخذ مكانه

&

كشخصٍ قريب من الأحداث ومعاين لتصرفات فريقي الموالين والمعارضين في اسطنبول، انبهرت صراحةً بنقطة التلاقي التي ظلت عليها كل الأطراف في تركيا من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، وذلك في الاجماع الجماهيري على العَلم التركي، بالرغم من أن هذا العلم المحتفى به هو علم الامبراطورية العثمانية وليس علم أردوغان أو حزبه، وعلماً أن تحت هذا العلم الذي تم اعتماده عام 1844م قُتل المئات وذبح في فيئه العشرات في زمن السلاطين من أمثال عبدالحميد، وأبيدت سكان قرى برمتها في ظلاله، ومع ذلك فلا يزال يلقى الترحيب والحب والاحترام الجم من لدن كل فئات المجتمع والأحزاب على اختلاف مشاربهم في تركيا.

بينما العَلم الكردي الذي لم يكن يحمل أية علامة من علامات البطش والجور منذ ظهوره لأول مرة وحتى الوقت الراهن، فلا يزال مكروهاً مِن قبل فئة مؤدلجة من المجتمع الكردي، مع أنه ما من حادثة تاريخية تُثبت بأن بسبب ذلك العَلم ذُبح أحدهم بغير حق باسمه أو في ظله، وهو العَلم الذي لا يزال يحمل كل مواصفات النبل والسلام، باعتباره وعلى مر التاريخ الكردي دائماً ما كان يمثل عَلم المظلومين وليس المستبدين من أهل الحكم والسلطان، ومع ذلك فثمة عداءٌ حقيقي من قبل فصيل كردي ديماغوجي لهذا العلم، فتارة ما يكون ذلك العداءُ ظاهراً وتارةً ما يبقى مستتراً، مع أنه لو كان العداء لهُ من جهة مغتصبي حقوق الشعب الكردي فهو وارد، وحسب المؤمنين بالصراعات الوجودية للأقوام والاثنيات فقد يكون شبه طبيعي أن يكون المحتلُ ليس ضد العلم الكردي فقط وإنما من الوارد جداً أن يكون ممن يقف بوجه أي شيء يكون محط اجماعٍ عام لدى الكرد بوجهٍ عام، كالعلم والبيشمركة والنشيد وباقي الرموز المشتركة.

ويبقى المستهجنُ والغريب في الأمر أن أكثر مَن عادى ذلك العَلم من الكرد أنفسهم قبل أعدائهم هم منظومة حزب العمال الكردستاني، تلك المنظومة الأيديولوجية التي تقوم أساساً على الفداء بالغالي والنفيس والتضحية بالبشر والحجر من أجل العقيدة وحراسها وخاقاناتها قبل التضحية من أجل أي شيء آخر، ويتجلى ذلك من خلال زئبقية مواقف هذه المنظومة التي أرهقت الكرد منذ ظهورها، وهي تدفعهم يومياً الى جبهات الموت أرتالاً من غير أن يعرف الفادي لماذا على حياته أن تنتهي ههنا وبمباركة هذه الفئة؟ ومن أجل ماذا عليه أن يقدم روحه رخيصاً على طبق العقيدة الأوجلانية في ظل الغياب التام للاستراتيجية النضالية التي تستوجب تقديم القرابين بشكل متواصل كرمى إرضاء حاخامات تلك المنظومة الخارجة من أرحامٍ مشبوهة منذ بدء انطلاقتها، ولكن وكما يعرف كل مهتمٍ بتاريخ هكذا حركات مسلحة، فيبقى سر دوامها أنها معمَّدة بالقرابين والدماء كما كانت الأديان القديمة تعوِّل على فلسفة الافتداء ببعض الأوادم لإبعاد خطر القوى الخارقة أو لتخفيف الغضب الإلهي عن الباقي منهم، تلك الفلسفة التي تستوجب الاتكال على القرابين البشرية كلما عجزوا عن فهم الظواهر الطبيعية للكون، حيث كانوا يفتدون بخير الشبان والبنات لا حباً إنما خوفاً وتقربا! والمنظومة الكردية هذه أيضاً تفتدي إذا ما لزم الأمر بكل ما توفر بين يديها من طاقات المجتمع الكردي لأهدافٍ وقوى لا تزال غامضة، وطبعاً عبر مفاهيم سريالية لا تمت للسياسة الواقعية بصلة، حيث لا يوازيها في الفكر والوسائل والتصرفات إلا أصحاب العقائد المماثلة في المنطقة كحركة حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان.&

ولعل واحدة من أسباب كراهية هذه المنظومة العقائدية للعَلم الكردي عائدٌ للسموم التي بثتها استخبارات الدول الاقليمية فيها منذ نشأتها، وذلك باعتبار أنها ظلت مخترقة من قبل أغلب أجهزة استخبارات الدول الغاصبة لكردستان، ومعروف أن أي دولة من الدول التي تدعم هذه الجهة لم ترفع يوماً من سقف ومستوى العلاقات معها أو مع روافدها بصفة علنية على المستوى السياسي، إنما كل علاقات هذه المنظومة مع الدول الاقليمية والغاصبة لكردستان كانت عبر كلاب أفرع المخابرات، فحتى في زمن المقبور حافظ الاسد الذي استخدم التنظيم طويلاً لتحقيق مآربه السياسية مع خصومه في المنطقة، فلم يعترف ولا لحظةٍ بوجودهم كحزب سياسي أو حتى كجمعية اجتماعية أو ثقافية، إنما فقط ظل يستخدمهم كأدوات للقتل إما عبر إرسالهم الى اقليم كردستان لمحاربة البارزاني وحزبه، وإما للقيام بالعمليات العسكرية ضد تركيا، وفي نفس الوقت كان يزج بأنصار الحزب المذكور بالسجون والمعتقلات متى ما شعر بتمادي بعضهم أو حاول الأسدُ إظهار وده أمام تلك الدول التي كانَ يُعاديها تارةً ويحابيها بعض الأحيان من خلال الافتداء بكوادر ذلك الفصيل، وطبعاً غالبا ما كانت مناوراته الخبيثة تلك على حساب كوادر الحزب المذكور، وأقبح ما في الأمر أن كل اجراءات الأسد القذرة ربما كانت تتم بموافقة قادة حزب العمال الكردستاني أنفسهم.

وبالنسبة للحساسية التي تبديها هذه المنظومة تجاه العَلم الكردي فلا شك بأن هنالك سببين رئيسسن لذلك العداء، مع عدم إنكار وجود أسباب أخرى ربما لم تخطر على بالنا أوان تدوين هذه المادة، وهي أن هذه المنظومة بفروعها وروافدها المنتشرة في عموم كردستان، إما أنها متعاقدة مع الأجهزة الامنية لتلك الدول وهي التي تحضها على ذلك التصرف بما أنها تعتبر ذلك العَلم الذي يشير صراحة إلى تاريخ وجغرافية كردستان من الخطوط الحمر لديها، لذا فمن يتعامل مع تلك الأجهزة الاستخباراتية مضطر لتلقف تلك الاملاءات والأخذ بها أينما كانت.

وإما أن كراهية هذه المنظومة للعَلم الكردي سببه ارتباط العَلم بكل شيء كردي خارج عن إطارعقيدتهم المختلقة، وكأن عدم قدرة أي بديل آخر قدموه مراراً ليحل محل ذلك العَلم هو ما يزيد من حنقهم على رافعيه أينما كانوا، كمحاولاتهم الحثيثة لجلبهم معظم أعلام الدول الافريقية لتنوب عن العلم الذي ارتبط بأهم أقطاب الثقافة والنضال الكرديين كالبدرخانيين وقاضي محمد والبارزانيين، وحسب البُعد السلوكي والنفسي للمسألة فهذه العملية هي من إحدى طرائق مَن يحاول أن يحل مكان غيره، إذ أن أول ما يبادر به المختلقُ لمحاربة المتجذر هو البدءُ بهدم كل رموزه، ومن ثم نشرعلاماته ومقدساته الخاصة به، وذلك حتى يأخذ مكانه تدريجياً مِن خلال تثبيت ركائزه وثقافته ورموزه، ويبدو أن ذلك الارث الذي ظل ينتقل من جيلٍ إلى جيل في المجتمع الكردي هو ليس فقط محط مزاحمة لدى تلك الجهة، إنما يظهر وكأنه بمثابة عائق حقيقي كبير في مسار خطها الأيديولوجي القائم على نسف التاريخ النضالي للكرد واختزاله بالأوبة الأوجلانية، وبالمناسبة فالجماعة ليسوا فقط يضيقون ذرعاً بالعَلم الكردي، إنما حتى كلمة البيشمركة التي غدت مع السنين مِن المقدسات النضالية للكرد، فهي الأخرى تزعجهم وتقض مضاجع أيديولوجيتهم القائمة على إلغاء التاريخ الكردي الذي يسبق ظهور هذه المنظومة العقائدية الدخيلة على الثقافة الاجتماعية والسياسية للمجتمع الكردي برمته، العقيدة التي تم إقحامها منذ سنوات في مسامات المجتمع بالغصب والإكراه، وذلك من خلال فلسفةٍ قائمة على الاستبداد والأنانية الاستحواذ الجشع في كل النواحي، حتى يتسنى لهم عقب نجاح مشروعهم المصطنع، البدء بالتدوين منذ يوم ولادة هذه المنظومة التي يبدو أن من أهم وظائفها إلغاء كل ما يتعلق بالارث الكردي الذي سبق مجيئهم، وكأن الماضي النضالي للحركة الكردية يمنعهم من إقامة الصوامع التقديسية الفارغة لتنصيب أوهامهم الأيديولوجية عوضاً عنها.

لذا فللتميز عمن سبقوهم فلدى هذا الفصيل استعداد دائم لتشويه كل مَن وضع مداميك وبذور الثقافة القومية قبلهم، وذلك حتى يغدو الكردي بلا تاريخ، وبلا ماضي، وبلا تراث، فيختزل الوجود الكردي عندها فقط بالأوبة الأوجلانية، وإمعاناً للانفصال عن تاريخ الحركة التحررية استعانوا بكلمة (الكريلا) للتخلص من آثار والتأثير الوجداني لكلمة البشمركة وبطولاتهم، وذلك سعياً منها لمسح كل الصور الذهنية المرسخة عن البيشمركة في أذهان الكرد أجمعين، علماً أن كلمة الكريلا هي كلمة لاتينية لا تمت للكرد بصلة، إنما استُقدمت لتناسب مقام المعوّلين على أساليب حرب العصابات كالتي خاضها تشي غيفارا في أمريكا اللاتينية، وربما بودهم تغيير النشيد القومي الكردي أيضاً، ولكن على ما يبدو أن أناشيدهم الحزبية لم ترتقي بعدُ الى مستوى النشيد القومي الكردي حتى يتم إزاحته أيضاً على غرار ما فعلوه بكلمة البيشمركة ومحاولاتهم الدؤوبة لإبعاد العَلم الكردي، وبدلاً عنه تثبيت أية خرقة بالية تفرزها مسامات مُبغضي العَلم وما يمثلهُ لديهم، فيظهر من خلال مراقبة تصرفاتهم الخرقاء حيال العَلم، وكأن الجماعة أهم عهد قطعوه على أنفسهم أمام أجهزة الاستخبارات التي يتعاملون معها هو أن لا يكون لهم أية علاقة بالرموز الكردية الأصيلة أولها العلم ومن ثم البيشمركة والحركة التحررية الكردية بزعامة البارزاني.

وفيما يتعلق بمحاولاتهم لإبعاد ذلك العَلم فلم تتوقف يوماً منذ بروزهم على الساحة الكردية في سوريا، وهم كل فترة يخترعون عَلماً جديداً ليكون البديل، ومن المرات القريبة التي أظهروا فيها كرهمم لذلك العَلم، فمنذ عدة أيام وأثناء تشييع جنازة الفنان عبد الرحمن عمر (بافي صلاح) تم منع رفع العلم الكردي، وعلى اثرها اعتقل مسلحو حزب الاتحاد الديمقراطي يوم في 23/7/2016 بإحدى قرى منطقة عفرين الناشط سربست احمد خليل على خلفية توزيع العلم الكردي أثناء تشييع جنازة (بافي صلاح) الذي وارى جثمانه الثرى بتاريخ 15/7/2016، ولم تمضي أيام حتى قامت مجموعة أخرى من مسلحي ( PYD ) في 26/7/2016م باعتقال السيد نذير بركات وهو من سكان منطقة عفرين قرية كوكان التحتاني وجره من بيته بتهمة رفع علم كردستان في جنازة الفنان الراحل، حيث لم يراعوا حتى سنه باعتباره في العقد السادس من عمره، وفي العام الماضي أيضاً وتحديداً بمناسبة يوم العلم الكردستاني في بلدة كركي لكي في 17-12-2015 والتي كانت بمشاركة رئيس المجلس الوطني الكردي إبراهيم برو، حيث قام اتحاد شباب والطلبة الديمقراطي واتحاد نساء كردستان وقتها برفع علم كردي بطول 200 متر، ولكن خلال عزف النشيد الكردي طوق العسكر من أنصار حزب الاتحاد الديمقراطي الحفلَ وبدأت سيارات الإطفاء برش المحتفلين بالمياه حتى يتم فض الحفل بالإكراه.

والسؤال الذي لا بد منه فياترى إذا ما كانت إشاراتنا حيال الجهة المناهضة للعَلم في غير محلها، فهل من أحدٍ بمقدروه أن يفيدنا بالسر الخفي وراء بُغض هذا الفصيل للعَلم الكردي؟ ولماذا هذه الجماعة تبقى حريصة على إبعاد أو تشويه أي شيء يجمع الكرد كالعلم والبيشمركة والرموز التاريخية؟ عدا عن ألوانهم المستوردة من أفريقيا وأناشيدهم التي لا تمجّد إلا خريجي مغاور قنديلستان، وكتاباتهم المستوحاة من أفكار الدكتاتور ستالين ومعلم النازية هتلر ووزير إعلامه جوزيف غوبلز؟.&