في مقال له بعنوان:”سلطة الكذب"،يرى ماريو فارغاس يوسا أن الذاكرة عند أغلب الكتاب هي منطلق الفانتازيا، وهي النقطة التي يندفع منها الخيال في طيرانه غير المتوقّع نحو إبتكار العمل الفني .لذلك نحن نعاين في الأدب أن الذكريات والإستكشافات تتمازج وتختلط بطريقة معقّدة حتى بالنسبة للمبدع نفسه الذي حتى وإن آدعى غير ذلك، فإنه يعلم أن الوقت الذي ضاع، وأنّ الذي تم المسك به من قبل الأدب، هو دائما مظهر خداع، وهو تخيّل فيه تذوب الذكرى في الحلم والعكس بالعكس. لذا فأن الأدب بحسب رأي صاحب رائعة"حرب نهاية العالم"، هو "مملكة اللبس"بآمتياز. والحقائق التي يأتي بها هي دائما حقائق ذاتيّة، أو "نصف حقائق"، أو حقائق أدبية، أي أنها ليست صحيحة تماما، وبالتالي يمكن القول إنها أكاذيب تاريخية. وكمثال على ما يقول، هو يشير إلى أن فيلم "البؤساء" المستوحى من الرواية الشهيرة لفيكتور هوغو، يقدم لنا صورة عن معركة "واترلو"، ،إلاّ أن هذه الصورة ليست صورة تلك المعركة التي هزم فيها نابليون بونابرت، وإنما هي المعركة التي نجح المؤلف في صياغتها إعتمادا على خياله. وفي رواية "تيران لوبلان"*، هناك تَصوّر لغزو عربي لبريطانيا. إلاّ أن هذا الغزو كما نحن نعلم لم يحصل أبدا. مع ذلك يجعله مؤلف الكتاب الذي هو جوانو مارتورال ممكنا. ومعنى هذا أن "الأدب يروي الحكاية التي لم يكتبها التاريخ الذي كتبه مؤرخون لا يعرفون هذه الحكاية ولا يحسنون روايتها”. ويرى ماريو فارغاس يوسا أن "الأدب لا يكذب آعتباطيا"، بل أن مبالغاته وحيله غالبا ما تكون وسيلة ل"التعبير عن حقائق عميقة ومثيرة للحيرة، ولا يمكنها أن ترى النور إلاّ من خلال كل هذا". وفي "تيران لوبلان"، يروي مارتورال أن الأميرة كارميسينا كانت"بيضاء حدّ أنه بإمكاننا أن نرى النبيذ يسيل في حنجرتها". وطبعا ليس هذا صحيحا. غير أن متعة قراءة الكتاب تجعله ممكنا وحقيقيا. وعندما يرى تيران لوبلان لأول مرة وهو في غرفة مأتميّة، نهدي الأميرة كارميسينا المنتفخين يصاب بالذهول والدهشة فيبدو كما لو أنه مصعوق. وعلى مدى أيام طويلة، يهجره النوم، ويفقد الرغبة في الأكل، وفي التحدث الى الناس. وحين يستعيد توازنه، يشعر كما لو أنه يتكلم للمرة الأولى، ويقول مُبتهجا:”أنا أحب". وبالطبع مثل هذا التصوير للحب مبالغ فيه الى حد كبير، إلاّ أن الأدب يجعله بديعا لدى القارئ. ويضيف ماريو فارغاس يوسا قائلا بإن القصص التي تحكيها الروايات غالبا ما تكون كاذبة مقارنة بالحقائق التاريخية، مع ذلك نحن نحتاجها لأنها تمكننا من أن نحصل على تلك الحقائق المخفية التي غيّبها المؤرخون، أو هي غابت عنهم.

ويتطرق صاحب"البيت الأخضر" الى الأدب في المجتعات المغلقة مشيرا إلى أن ما تتميز به هذه المجتمعات هو أن التاريخ والأدب مختلطان وممتزجان بحيث يصعب التفريق بينهما. ففي هذه المجتمعات تقوم السلطة بمصادرة كل شيء لصالحها، وتسمح لنفسها بمراقبة حركات الناس وأفعالهم وأقوالهم وحتى أحلامهم وكوابيسهم وذاكرتهم. وعادة ما يصبح الماضي في مثل هذه المجتمعات مبررا لما يحدث في الحاضر. والتاريخ الرسمي هو الوحيد المسموح به. والذاكرة الجماعية تتمّ صياغتها من قبل رجال السلطة والمؤرخون والكتاب الذين يقبلون العمل بحسب شروطها وأوامرها. وكل شيء يستعمل من أجل تبرير وتشريع سياسة السلطة ونفوذها ومظالمها وطغيانهاوجيروتها وسفالة من يتحكمون في دواليبها. لذلك يصبح التاريخ "متخيّلا"، لأن السلطة سياسية كانت أم دينيّة، مجبرة دائما على أن تختلق الأكاذيب والتبريرات للبقاء ،ولفرض وجودها. ومعنى هذا أنّ الفرق بين الحقيقة التاريخية والحقيقة الأدبية تنتفي تماما. وكل واحدة منهما تذوب في الأخرى ليولد شيئ هجين يفرغ التاريخ من محتواه، ويفقد الأدب قدرته على التصور والتخيل والغوص بعيدا في واقع مطموس ومغيب.

ويضيف ماريو فارغاس يوسا قائلا بإن الناس ليسوا في حاجة فقط الى الحقائق التاريخية، بل هم في حاجة أيضا الى الأكاذيب، الى تلك الأكاذيب التي يبتكرونها بحرية، وليست تلك التي تفرض عليهم. لذلك فإن التخيل يثري الحياة، ويكملها، وربما يمنح الناس القدرة على تحمل أعباء الحياة الصعبة التي يعيشونها، كأن يجعل الناس يحلمون بالحصول على أكثر مما يحصلون عليه في الواقع والحقيقة.

“الحياة في الكذب والكذب في الحياة " حق مشروع بحسب ماريو فارغاس يوسا. وعلينا أن ندافع عنه من دون تردد أو تعفف أو خجل. والأدب "إدانة مرعبة للحياة تحت أي نظام أو سلطة. .وهو شهادة ملتهبة عن الجوانب المنقوصة فيها، وعن عجزها عن إرضائنا. لذلك فإنه-أي الأدب- عامل مُدَمّر يهاجم كل السلطات التي تعمل على أن يتلاءم معها الشعب، ويستجيب لجميع طموحاتها وأفعالها التي تهدف الى إرضاخه وتدجينه".

هي رواية للكاتب الكاتالاني جوانو مارتورال صدرت في فالنسيا عام 1490.وقد وصفها سارفانتس على لسان دون كيخوتي بأنها"أفضل كتاب في العالم".