في إطار تفاعل الخبراء والساسة في دول العالم مع تداعيات أزمة فيروس "كورونا" (كوفيد ـ19)، قال وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ومستشار الأمن القومي في عهد الرئيس نيكسون، هنري كيسنجر في مقال نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" مؤخراً إن جائحة "كورونا" ستغير النظام العالمي للأبد وأن تأثيرها المضر على الصحة العامة قد يكون مؤقتاً لكن الأزمة السياسية والاقتصادية التي خلفّتها الأزمة ستستمر إلى أجيال عديدة.

وبالتأكيد فإن من الضروري الاستماع إلى وجهات نظر كيسنجر ونظرائه من الخبراء الذين عاصروا أزمات عالمية كبرى، وأسهموا في التعامل معها وبناء التقديرات الاستراتيجية والتصورات والبدائل بشأن سبل التعامل معها، ومن ثم فإن مايقوله جدير بالاهتمام والمناقشة، وبالفعل كان في مقاله نقاط في غاية الأهمية يجب الانتباه لها أولها أهمية عامل الثقة بين الحكومات والشعوب، باعتبار أن هذه الثقة هي الأساس في إدارة مثل هذه الأزمات انطلاقاً من ثقة الشعوب في قدرة حكوماتها وأجهزتها على التعاطي مع التداعيات والحد منها واستعادة الاستقرار،

وبالتالي فإن من البديهي أن تتوقع الحكومات تقييماً لفاعليتها وقدرتها على إدارة الأزمة في اليوم التالي لنهايتها، وهنا يجب الانتباه إلى مسألة مهمة للغاية تتعلق بالنتائج النهائية التي ستكون عنصر الحسم في بلورة رأي عام مؤيد أو معارض لأسلوب إدارة الأزمة، حيث يبقى عنصر الحسم مرهون بقدرة الحكومات على تتبع مسارات الأزمة في أبعادها كافة والحد من تداعياتها ومن ثم الحفاظ على الثقة العامة من خلال تقليل المخاطر والموائمة بين اعتبارات المصلحة العامة في كافة جوانبها: صحة المواطنين، الحد من الخسائر الاقتصادية، الابقاء على فاعلية المؤسسات لضمان استئناف الأعمال في مرحلة مابعد الأزمة، وحتى الحفاظ على الصحة النفسية والتماسك الاجتماعي للشعوب.

نقطة أخرى في مقال كيسنجر تبدو في غاية الأهمية تتعلق بإدارة أزمة "كورونا" عالمياً، حيث أشار إلى أن العالم يتعامل مع الأزمة على أسس وطنية، مؤكداً أن الآثار الاجتماعية والصحية والاقتصادية للفيروس لا تعرف الحدود وأن المهمة العاجلة أمام قادة العالم الآن تتمثل في إطلاق مشروع مواز للانتقال إلى نظام مابعد جائحة "كورونا"، واعتقد أن الشق الأول من هذه النقطة في غاية الأهمية لأن التنافس قد طغى بصورة واضحة على التعاون في مواجهة الأزمة لدرجة أن الاتهامات المتبادلة حول المسؤولية عن تفشي الفيروس تطغى على ماعداها من مواقف سياسية تتصدر المشهد العالمي، حيث تحولت الأزمة إلى مناسبة لتصفية الحسابات السياسية والاستراتيجية وغلبت نظرية "المؤامرة" على بعض القادة والزعماء، وبالتالي تراجعت فرص التعاون وايجاد آليات دولية سريعة للدعم والمساندة المتبادلة على الأقل في مجال تبادل الخبرات والمعلومات ولو على صعيد اكتشاف الأمصال والعلاجات اللازمة لوقف تمدد الفيروس، بل ظهر التنافس والتكالب على الفوز بفرص اكتشاف العلاج والأمصال المضادة وكشفت البشرية عن أحد أسوأ وجوه العولمة وطغيان الرأسمالية المتوحشة.

أما مسألة البحث في ايجاد نظام عالمي للانتقال إلى مابعد جائحة "كورونا"، فلا اعتقد أن هناك فرص لحوار عالمي حول هذه المسألة، ولكن ما يحدث من تفاعلات وتجاذبات هي ارهاصات تصب في اتجاه بناء معطيات قد تكون أساساً يصلح لحوار عالمي مستقبلي حول إعادة تشكيل هيكل النظام العالمي في مرحلة مابعد الجائحة، بمعنى أن الشد والجذب بين الصين والولايات المتحدة في المرحلة الراهنة هو جزء من سعي الطرفين لتحقيق أهداف استراتيجية معينة تتصل بإدارة مرحلة مابعد "كورونا" وأن هذا السجال هو بمنزلة حرث للأرض تمهيداً لما هو آت.

من المهم أيضاً الأخذ بالاعتبار وجهة نظر كيسنجر في حدود قدرات الدول على التصدي لخطر تفشي الفيروس، حيث أقر بأنه لا يمكن لأي دولة، بما فيها الولايات المتحدة، أن تتغلب على الفيروس بمفردها، وأن المواجهة تتطلب رؤية وبرنامجاً تعاونياً عالمياً وحذر من أن عدم حدوث ذلك ستكون عواقبه وخيمة على العالم أجمع؛ والحقيقة أن مانراه من حولنا لا يبشر بامكانية ايجاد صيغة تعاون عالمية في الوقت الراهن على الأقل، فلا تزال الاتهامات تتبادل بين بكين وواشنطن، ولا تزال سلوكيات الدول تتسم بالانا المفرطة، حتى أن هناك دول مثل تركيا قامت بقرصنة مستلزمات طبية متجهة إلى دول أوروبية بشكل لا يمت للحضارة والقيم الانسانية بأي صلة!

مقال كيسنجر يمثل تنبيهاً للعقل السياسي الأمريكي، ويعكس حرصاً على حفاظ الولايات المتحدة على مقعدها في قيادة النظام العالمي القائم، لذا نلحظ من هذا الاستراتيجي المتمرس رغبة في دفع صانع القرار الأمريكي إلى بناء رؤية أعمق وأوسع للأزمة وتحويلها إلى فرصة لتعزيز مكانة الولايات المتحدة عالمياً، وذلك من خلال دعوته لتطوير خطة مارشال عاجلة تلتزم من خلالها بلاده بالعمل على ثلاثة محاور هي دعم الجهود العالمية لمقاومة الأمراض المعدية ودعم البحوث العملية، مؤكدا الحاجة الماسة إلى تطوير تقنيات جديدة لمكافحة العدوى وتوفير اللقاحات المناسبة لأعداد كبيرة من السكان، وثانيها يستهدف معالجة تداعيات الأزمة على الاقتصاد العالمي، مشيراً إلى أن الأزمة الاقتصادية الحالية تعتبر أكثر تعقيداً من الأزمة المالية في عام 2008، حيث إن تفشي فيروس كورونا السريع أدى إلى الانكماش على مستوى العالم بصورة لم يعرفها التاريخ من قبل، وأن آثارها تحتاج إلى برامج عمل سريعة احتمالات الفوضى الوشيكة التي تهدد سكان العالم. وثالث هذه المحاور ينطلق من حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي من خلال إعادة النظر في فلسفة عمل الحكومات الحديثة القائمة على فكرة الحمائية التي تتعارض تماماً مع واقع الاقتصاد العالمي والتجارة وحركة النقل والسفر والسياحة التي جلبت الازدهار للاقتصادات من خلال الغاء الحواجز والحدود وتسهيل حركة النقل والتجارة الحرة.

المعضلة أن الأفكار الكيسنجرية لا تتوائم في معظمها مع سياسات الإدارة الأمريكية الحالية، ولاسيما فيما يتعلق بنبذ الحمائية والتمسك بالقيم الليبرالية باعتبارها جوهر قيادة الولايات المتحدة والغرب بشكل عام للعالم، وأن إسقاط هذه المبادىء يعني تخلي الغرب عن القيادة والبحث عن أسس أخرى قد تتوافر في أنظمة ونظريات سياسية منافسة مثل التوجه الذي تقوده الصين. وبالتالي فإن رؤية كيسنجر تنطلق من أن الأزمة تمثل تحدياً للقيم والمبادىء الليبرالية في الأساس، ولذا فهو يحث

ديمقراطيات العالم على الدفاع عن قيم التنوير والحفاظ عليها ، ومحذراً من أن التراجع العالمي عن موازنة السلطة مع الشرعية سيؤدي إلى تفكك العقد الاجتماعي محليا ودوليا.

المعضلة الأساسية أن الغرب الذي يتحدث عنه كيسنجر لم يعد كتلة واحدة، وأن القيم الليبرالية ذاتها باتت موضع تشكك بعض الساسة في الغرب، بل نجد أن هناك من ينظر باعجاب إلى نظام الحكم في الصين على سبيل المثال، ومن المعلوم أن سياسات الرئيس ترامب تنحو نحو الانعزالية والحمائية بشكل كبير كما نجد الحزب الديمقراطي الامريكي نفسه بات يتجه نحو اليسار ويعارضوه مرشحوه للرئاسة اتفاقات التجارة الحرة وغير ذلك!