أزبدوا وأرعدوا وقالوا لن نقبل بأي وزير من حكومة عادل عبدالمهدي السابقة. وأقسم كبيرهم الذي علمهم السياسة " أنا كلمتي ما تنزلش الأرض أبدا "!. فلما تسلم إسم المرشح وحيد زمانه لمنصب وزير الخارجية، قال " معليش تنزل المرة دي ".

أقسموا جهد أيمانهم وقالوا لن نقبل بغير حكومة تكنوقراط إنتقالية، وقال كبيرهم " المجرب لا يجرب سجلوها عندكم، كلمتي ما تنزلش الأرض أبدا ". فلما هدد الكبير الآخر بالإنسحاب من العملية السياسية " البديعة والرائعة "، واذا بالكبير الاولاني يقول للكبير الثاني " خلاص.. تنزل المرة دي "؟؟!!
وضعوا في كافيتريا البرلمان أيديهم على المصحف وحلفوا بأنهم لن يصوتوا لمنح الثقة للوزير الفلاني، وقال رئيسهم " يستحيل كلمتي تنزل الأرض هذه المرة "! فلما عقدوا صفقة سياسية، قال لهم " خل تنزل هذه المرة "؟؟.

تلك هي الديمقراطية المحاصصية الفذة التي يتشرف بها عراق اليوم.
يروى أن عائلة إجتمعت مساء أحد أيام الخميس للتباحث حول ما سيفعلونه في عطلة نهاية الاسبوع . فقال الأب " سنذهب جميعا في الغد لزيارة بيت عمكم ". فقالت الأم " لا بالعكس، سنذهب جميعا لزيارة بيت خالكم "!. ونظرا لإختلاف الرأي والرأي الآخر قرروا إجراء " إستفتاء شعبي وديمقراطي " لحسم هذا الجدال السياسي ". فتم التصويت بالإجماع على تأييد خطة الأب وزيارة بيت العم. وفي الصباح الباكر سمع الأطفال الأم وهي تنادي " إنهضوا ارتدوا ثيابكم سنذهب اليوم الى بيت خالكم "؟

فتعجب الأطفال من هذا القرار المفاجيء ونظروا الى أبيهم الذي طأطأ رأسه وهو يشرب قهوته ويطالع الجريدة، فعلموا حينذاك بأن القرارات المصيرية تتخذ في الغرف المغلقة بالليل.

هذا هو حال العراق منذ سقوط النظام الفاشي، ففي ظل ديمقراطيتها الملعونة تتخذ كافة القرارات السياسية والمصيرية في الغرف المغلقة أو على طاولة مآدب العشاء الفاخرة!.
لعن الله أمريكا ومن أمركها، فهي رأس المصائب والويلات التي جاءت الينا بهذه الديمقراطية اللعينة في العراق. ديمقراطية " هات وخذ "، " شيلني وأشيلك " ك، ديمقراطية ( انهب واهرب).

فحين يترشح أحدهم لعضوية البرلمان تجده صنديدا مدافعا عن حقوق البسطاء والمحرومين من الطبقات الشعبية المسحوقة، وحين يفوز بالعضوية يتحول الى شايلوك آخر يستنزف دمائهم وينهب ثرواتهم ويدخل في صفقات مشبوهة مع النخب السياسية.

حين كان نوري السعيد رئيسا للوزراء تلقى دعوة رسمية لزيارة دولة مغاربية، وكانت شركة الطيران التي تنقل المسافرين الى المغرب هي شركة طيران الشرق الأوسط الموجودة في العاصمة السورية دمشق. وكان الأمر يحتاج أن يذهب رئيس الوزراء العراقي الى سوريا ليركب الطائرة من هناك الى المغرب. وبعد أن أكمل زيارته وعاد الى دمشق فكر بأن هناك دعوة رسمية أخرى له لزيارة لبنان. فقال " مادمت قريبا من بيروت فلأذهب هناك وألبي الدعوة. وهكذا صعد الى سيارته الخاصة برئيس الوزراء وذهب الى بيروت وأتم الزيارة، ثم عاد بالسيارة الى بغداد. ولما نظم قائمة مصروفات السفر أدرج ثمن الوقود ( البنزين ) المستخدم في سفره الى لبنان. ولكن وزير المالية شطب من القائمة ذلك البند وقال لرئيس الوزراء " لقد كان أمر إيفادك قد صدر للمغرب فقط ولم يرد ذكر لبنان، ولذلك عليك أن تدفع ثمن وقود سفرك الى لبنان من جيبك الخاص "!

لقد قلنا وكتبنا مرارا عن نزاهة وأمانة وطهارة يد المسؤولين والقادة الحكوميين في العهد الملكي وحتى في العهود الجمهورية اللاحقة قبل أن يأتي نظام البعث بشقاوات بغداد وأولاد شوارعها ليتبوؤا المناصب العليا في البلاد. ولكن الذي حدث بعد " تحرير " العراق من قبل الأمريكان كان أدهى وأمر، فهم جاؤوا من مشارق الأرض ومغاربها بحثالات المجتمع لكي ينصبونهم حكاما في العراق!. والغريب أن يسموا عمليتهم العسكرية اللعينة بإسم " تحرير " العراق؟. فيا ترى ممن حرروه؟. فالعراق في عهد الدكتاتور السابق مع كل جرائمه الوحشية ونهجه الفاشي، كان سيد نفسه، بلدا ذات هيبة وسطوة لا يجرؤ حتى راعي الاغنام من البلدان المجاورة ان ينتهك شبرا واحدا من حدود العراق. كانت اشارة واحدة من اصبع حاكم العراق وقتذاك، تشعل الشوارع العربية وتهز عروش الحكام.
أما قولهم أنهم حرروه من الدكتاتورية، فإن من نجدهم اليوم من النخبة السياسة ومن زعماء عشائر وميليشيات سائبة وحشود وتنظيمات اسلامية متطرفة، هم أوحش وأشرس من الدكتاتور صدام!

كان للرائع أحمد الجلبي الدور الأبرز والأوحد في دفع أمريكا لجلب مئات الألوف من جيوشها وأسلحتها ومدافعها وطائراتها للإطاحة بنظام صدام، لكن العراقيون تحت غطاء " ديمقراطية مزيفة " تنكروا لهذا الرجل وبدلوه بأصحاب العمائم السوداء والبيضاء وبشراذم الناس المتلفقون من شوارع طهران وأنقرة ومنافي أوروبا!

كان هناك المئات من الشخصيات الوطنية العراقية ومن المثقفين الأفذاذ الذين هاجروا من العراق هربا من بطش النظام الصدامي، وفيهم من له خبرات سياسية ودبلوماسية فذة، ولكن العراقيين تحت تأثير فتاوى المرجعية بدلوا هؤلاء بالأوباش من حزب الدعوة والعصائب وجيش المهدي الذين يذيقون العراقيين اليوم مر العذاب والهوان.

أتاحت لهم الديمقراطية الأمريكية المزيفة أن يستبدلوا الطيب بالخبيث، ظنا منهم أن مجرد وسم الأحزاب الخبيثة بـ" الاسلامية " وأن مجرد وضع العمامة على رأس السياسيين سيضع العراق في أيدي ملائكة منزلين من السماء، وأن العراق سيصبح في عهدهم جنة الله على الأرض.

وهاهو وضع العراق الذي لايسر عدوا قبل الصديق. فهنيئا لهم هذا الجحيم المستعر.

وكما تولون يولى عليكم، وما ظلمناهم ولكن أنفسهم كانوا يظلمون..