إن الاتفاقية التي وقعتها الولايات المتحدة الأميركية مع حركة طالبان في فبراير من العام الجاري وضعت أفغانستان أمام خيارات صعبة وعدة احتمالات، ولكن قبل الحديث عن هذه الخيارات التي وُضعت على طاولة الساسة الأفغان يجب أن نعلم بأن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرغب بتوقيع اتفاقية المصالحة بين الحكومة وطالبان وسحب القوات الأميركية من الأراضي الأفغانية في أسرع وقت ممكن ويراها أولوية قصوى له وذلك قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية والتي تقام في الثالث من نوفمبر للعام الجاري وذلك لدعم موقفه وحملته الانتخابية.

وفي سبيل تسريع عملية المصالحة الأفغانية وفق ما يتطلع إليه الرئيس ترمب استطاع المبعوث الأميركي إلى أفغانستان زلمي خليل زاد إقناع باكستان بالدخول في عملية المصالحة ومساعدة أميركا في إنجاح العملية، وتمكّن من تحويل باكستان من دولة متهمة بإيواء حركة طالبان ومفروضة عليها عقوبات أميركية إلى دولة تساعد وتدعم أميركا في عملية المصالحة.
ومع دخول باكستان في عملية السلام، في الوقت الذي كانت تعلم فيه الأمم المتحدة وأميركا والدول الأوروبية ومتأكدة تماماً بأن معظم زعماء طالبان يقيمون في باكستان ولكن الحكومة الباكستانية لم تعترف من قبل بذلك أبداً، ولكن بعد اتفاق خليل زاد مع باكستان فيما يتعلق بالمصالحة الأفغانية، أدى ذلك إلى تحسّن في العلاقات الأميركية الباكستانية وبدأت وزارة الخارجية الباكستانية بلعب دور في موضوع طالبان، أصبحت اجتماعات قيادات طالبان مع الحكومة الباكستانية بالإضافة إلى وجودهم في باكستان علنياً، دون حاجة إلى أن تنكر باكستان ذلك أو تخفيها، وهذا الذي أعطى لباكستان دوراً حيوياً في العملية السياسية، حيث استقبل وزير الخارجية الباكستاني محمود قريشي ومسؤولين باكستانيين وفد حركة طالبان بشكل رسمي بقيادة الملا برادر رئيس المكتب السياسي لحركة طالبان وذلك مطلع أكتوبر العام الماضي، كما أن باكستان فتحت أبوابها لدعوة الزعماء الأفغان بمختلف أطيافهم وأحزابهم إلى باكستان للتشاور معهم حول المصالحة وعقدت في إسلام آباد مؤتمر السلام الأفغاني لمدة ثلاثة أيام في يونيو 2019 تحت رعاية وزير الخارجية قريشي بمشاركة القادة الأفغان ومنهم محمد محقق نائب الرئيس التنفيذي لحكومة الوحدة الوطنية 2020-2015 وقلب الدين حكمتيار زعيم الحزب الإسلامي ومحمد كريم خليلي رئيس مجلس السلام الأعلى إضافة إلى عطا محمد نور الرئيس التنفيذي لحزب الجمعية الإسلامية، ومحمد حنيف أتمر أحد المرشحين السابقين للانتخابات الرئاسية الأفغانية الأخيرة ووزير الخارجية الحالي، وأحمد ولي مسعود النائب الأسبق للرئيس في حكومة الرئيس حامد كرزي بالإضافة إلى عدد كبير من زعماء الأحزاب والقادة السياسيين الأفغان.

وعلى الرغم من أن الإفراج عن أنس حقاني كان خطاً أحمراً للحكومة الأفغانية ولكن المبعوث الأميركي إلى أفغانستان استطاع إقناع حكومة الرئيس أشرف غني بالإفراج عنه وكذلك الإفراج عن بعض سجناء جوانتانامو كان له دور كبير في إقناع القادة العسكريين في حركة طالبان بدعم الاتفاق بين أميركا وطالبان وتنفيذه كذلك.

إن ما فعله المبعوث الأميركي زلمي خليل زاد من إقناع باكستان ومن ثم روسيا والصين ودول أخرى بالمشاركة الفعّالة في عملية المصالحة الأفغانية لم يفعله من سبقه من المبعوثين الأميركيين، وحتى أن خليل زاد استطاع إدخال الهند في العملية وهي التي لها مصالح استراتيجية في أفغانستان وقدمت دعماً لحكومة أفغانستان بأكثر من خمس مليارات دولار، وتعتبر الهند أرض أفغانستان مكاناً لحرب استخباراتية بينها وبين منافستها الشرسة باكستان.

وبهذا حصل زلمي خليل زاد على إجماع المنطقة على العملية السياسية في أفغانستان، كما استفاد من علاقاته السابقة مع السياسيين الأفغان وذلك بحكم أنه كان يشغل منصب السفير الأميركي لدى كابل من 2005-2003 وتمكن من إقناعهم بدعم خطته والضغط على الحكومة بطريقة غير مباشرة، لأن الاتفاق الأميركي مع طالبان وجد دعم الدكتور عبد الله عبد الله رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية والرئيس السابق حامد كرزي والجنرال عبد الرشيد دوستم زعيم القومية الأوزبكية والنائب الأول السابق للرئيس غني وغيرهم من قادة الأحزاب والشخصيات السياسية من أهمها حزب الجمعية الإسلامية الأفغانية والتي لها نفوذ وأتباع كثر في أفغانستان وهي التي أسسها الرئيس الراحل برهان الدين رباني، وأصبحت أفغانستان في الوقت الحالي أقرب من أي وقت آخر للمصالحة، والرئيس أشرف غني وفريقه أمام أربعة خيارات ونسردها على الوجه التالي:

الخيار الأول الذي هو بيد فريق الرئيس غني بأنه هل يمكن للدكتور حمد الله محب مستشار الأمن الوطني الأفغاني ومهندس التفاوض مع الدكتور عبد الله عبد الله وممثله الخاص بأن يتوصل مع طالبان إلى اتفاق سياسي بالمشاركة في الحكومة تحت رئاسة الرئيس أشرف غني وبصلاحيات كاملة للرئيس ومنح طالبان السلطة على بعض الوزارات والولايات مع مشاركة باقي الأطراف السياسية الأفغانية، وهذا بالطبع يعتمد على موافقة الدكتور عبد الله والتنسيق فيما بينه وبين أعضاء فريقه والحكومة وكذلك الأخذ بعين الاعتبار المصالح العليا للبلاد، وهل أن حماية مكانة الرئيس أشرف غني سوف تكون من الأولويات أو أن التفاوض مع طالبان يكون موضع خلاف بين أغلبية أعضاء مجلس المصالحة الوطنية والرئيس غني.
الخيار الثاني هو أن تقتنع طالبان بتغيير النظام الرئاسي إلى نظام رئاسي برلماني مشترك واستحداث منصب رئيس الوزراء، وهذا المنصب كان من ضمن مطالب الدكتور عبد الله قبل أن يقبل بمنصب رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية، كما كان منصب رئاسة الوزراء من ضمن مطالب عدد من السياسيين والأحزاب مثل صلاح الدين رباني زعيم الجمعية الإسلامية الأفغانية، وكذلك تقسيم الحكومة مع طالبان وباقي الأطراف السياسية وتضحية الرئيس بأغلب أعضاء فريقه الحالي وتكون صلاحيات رئيس الوزراء تنفيذية وتكون لطالبان أو أي شخصية مستقلة يتفق عليها كافة الأطراف ويضل منصب رئيس البلاد بصلاحيات معينة يتفق عليها في منصبه.

ثالث الخيارات أمام الحكومة الأفغانية وهو الأصعب على فريق الرئيس بأن يقوم الرئيس أشرف غني من تلقاء نفسه وعند الوصول إلى اتفاق مع طالبان أن يطلب حكومة مؤقتة تحت رئاسة شخص مستقل والترتيب للذهاب بالبلاد نحو انتخابات رئاسية وبرلمانية خلال ثمانية عشر شهر إلى ست وثلاثون شهراً بحيث تقوم الحكومة المؤقتة بعمل إصلاحات في الدستور ولجنة الانتخابات وقوانينها، وبهذا التنازل -إن حدث- يسجل الرئيس أشرف غني نفسه واسمه في التاريخ الأفغاني كأول رئيس يتنازل طوعياً قبل انتهاء فترة رئاسته ويسلم الكرسي إلى رئيس مؤقت حقناً للدماء ورغبة في الصلح والسلام، وهذا ما يدعمه بأن يكون مرشحاً قوياً لنيل جائزة نوبل للسلام وغيرها من المكانات العالمية مقابل هذا التنازل.

الخيار الرابع والأخير وهو المخيف بأن لا تستطيع الحكومة إقناع طالبان، وإصرار الحركة على تشكيل حكومة مؤقتة وعدم قبول الرئيس أشرف غني بالتنازل عن كرسي الرئاسة في الوقت الذي قد تقبل كافة الأطراف السياسية هذا الحل ويرفض الرئيس هذه المطالب، وفي هذه الحالة فإن أفغانستان تواجه مصيراً مجهولاً.

إن بعض "الصقور" في إدارة الرئيس أشرف غني لا يزالون يطلقون على طالبان بأنها حركة إرهابية، فإن هذا غير مهم لأن العديد من الساسة الأفغان وأميركا وعدد من دول العالم مثل روسيا والصين والدول الإسلامية كإندونيسيا وأوزبكستان وغيرهم لا يرون طالبان منظمة إرهابية ومستعدون باستقبال وفود الحركة ودعم عملية المصالحة الأفغانية.

لقد أعلن الرئيس أشرف غني في الحادي عشر من يونيو الجاري في اجتماع مراكز البحوث العلمية للمجلس الأطلسي الأميركي بأنه لن يكرر خطأ الرئيس الراحل محمد نجيب الله بعد إعلانه التنازل أمام المجاهدين الأفغان ومنح المجال للأطراف السياسية والجهادية بالتمهيد لحكومة مؤقتة، وشدد على أنه لن يكرر الخطأ التاريخي الذي ارتكبه الدكتور نجيب الله ولن يتنازل عن الحكم ولن تكون هناك حكومة مؤقتة.

ما هو موقف الرئيس غني أمام المجتمع الدولي؟ في حال إن حدث أن معظم الأطراف السياسية الأفغانية اتفقوا مع طالبان لتشكيل حكومة مؤقتة ورفض الرئيس ذلك كما أعلنها صراحة قبل أيام فإن ذلك يُظهر الرئيس أشرف غني أمام المجتمع الدولي بالشخص الذي وقف أمام الحل السياسي للمصالحة الأفغانية وحال دون حصول أفغانستان على السلام، وذلك مثلما حدث في تأخير عملية الإفراج عن السجناء والامتناع عن الإفراج عن أنس حقاني الذي قالت عنه الحكومة بأنه خط أحمر ولن تفرج عنه ولكن حدث ذلك وأُطلِق سراح حقاني.

بالطبع أن الرئيس أشرف غني سوف يحصل على دعم كبير من قبل فريق الصقور في إدارته والذين يعتقدون أنه من الممكن للحكومة الفوز بالحرب على طالبان على الرغم من ثمانية عشر سنة مرّت كان فيها أكثر من مئة وأربعون ألف جندي من القوات الأميركية والناتو وأكثر من مئتي ألف جندي أفغاني بالإضافة إلى الإمكانات الكبيرة والدعم الجوي والتكنولوجي والأسلحة المتطورة وتكاليف مالية قُدّرت بأكثر من ترليون ونصف الترليون دولار ولكن لم تتمكن أميركا ولا الحكومة الأفغانية من الفوز بالحرب، ولا زال جزء كبير من القرى والأرياف الأفغانية بيد حركة طالبان ولكن ما زال "صقور" مكتب الرئيس يعتقدون عكس ذلك، وهذه السياسة التي تنتهجها حكومة أشرف غني من الممكن أن تضعها في مواجهة مباشرة مع أميركا.

هناك عدة أسئلة مهمة يجب طرحها وفهم أبعادها، هل حاربت طالبان لمدة ثمانية عشر عاماً هو من أجل الدخول في الحكومة وقبول عدة وزارات وولايات من الحكومة؟ وهل كان ثمن هذه الوزارات والولايات هو حياة أكثر من مئة وخمس وأربعون ألف أفغاني من العسكريين والمدنيين من الجانبين؟ أو أن طالبان -التي استطاعت فرض شروطها على الأميركيين في سحب القوات الأميركية من أفغانستان وشرطها بعدم الدخول في المفاوضات مع الحكومة الأفغانية إلا بعد الإفراج عن الخمس آلاف سجين من الحركة- تستطيع فرض شروطها على الحكومة حتى توافق عليها؟ وهل نرى في أفغانستان واقعاً جديداً وتفاوض على حكومة مؤقتة وعمل إصلاحات كاملة في الدستور الأفغاني في مختلف المجالات ومكافحة الفساد وعمل إصلاحات جذرية في لجنة الانتخابات وقوانينها وإعادة الانتخابات البرلمانية والمجالس المحلية وتصحيح الأولويات للعلاقات الخارجية وإصلاح القوات الأمنية والمؤسسات القضائية والعدلية وغيرها؟ علماً بأن العدد من الأحزاب السياسية تريد هذا النوع من الإصلاحات ولكن لا تستطيع إجبار الحكومة على ذلك أو الضغط عليها لتنفيذها.

فعلى الرغم من نجاحات المجتمع الدولي ودعمها للحكومة الأفغانية في العديد من المجالات العسكرية والتنموية والاقتصادية وغيرها، مثل تكوين الجيش والشرطة والقوات الخاصة وأحقية الرأي وحرية الصحافة والإعلام وتنفيذ المشروعات الاقتصادية كسكّة الحديد وبناء المدارس والسدود، ولكن البلاد ما زالت بحاجة إلى إصلاحات جذرية في مكافحة الفساد وعوامل استتباب الأمن وإصلاح الأجهزة الأمنية، حيث تقع أفغانستان في التاسعة بين الدول العشر الأكثر فسادًا على مستوى العالم حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية الصادر في يناير ٢٠٢٠م.
إن الأيام القادمة حافلة بالأحداث في أفغانستان؛ وسوف تبيّن مدى صدق حركة طالبان والحكومة في عملية المصالحة وتظهر من الذي يقف سداً منيعاً أمام المصالحة والاستقرار في أفغانستان.

السفير الأفغاني السابق في الرياض