على المجتمع الدولي أن يعرف من هم الصقور في حكومة الرئيس أشرف غني والذين يقفون سداً منيعاً أمام المصالحة الأفغانية ويخلقون العراقيل لإفشال عملية السلام، وهذا سواء من جانب الحكومة أو حركة طالبان وعليهم أن يعوا بأن المصالحة خط أحمر لا يجوز لأحد المساس به وأن أي شخص أو كيان يضع عراقيل في طريق السلام الأفغاني سوف يواجه أشد العقوبات.
ومع الحديث عن صقور الرئاسة الأفغانية وأنا أكتب هذه المقالة تذكرت موقفاً حدث معي في إحدى مهماتي الدبلوماسية إبان عملي كسفير لبلادي لدى المملكة العربية السعودية وكان الموضوع مهماً للغاية فاتصلت بأحد مستشاري الرئيس أشرف غني وعرضت عليه الموضوع وأن يخبر الرئيس به، ولكن فاجأني بأن الرئيس غير موافق، وفي تقديري كسفير ومن معرفتي بفخامة الرئيس كنت متأكداً بأنه لن يرفض لو اطّلع على الحقائق، ومع تعنّت المستشار سافرتُ إلى العاصمة كابل، وعلمتُ بأنه تم عرض الموضوع عليه بطريقة خاطئة، فتواصلت مع عدد من الوزراء والمسؤولين وطلبت مساعدتهم في شرح الموضوع على فخامة الرئيس، والتقيتُ بفخامة الرئيس وتم عرض الموضوع عليه بطريقة صحيحة، فوافق على الفور؛ وهذا يدل على أن هؤلاء الصقور من المسؤولين لهم رأي قوي وهم من يشكّلون موقف الحكومة من عملية المصالحة.
إذا بدأ الرئيس أشرف غني في المفاوضات بشكل مباشر معطالبان وأوصل أفغانستان إلى المصالحة فإنه بالطبع سيحظى بمكانة كبيرة في تاريخ أفغانستان والمنطقة لأنه يعتبر الرجل الذي أوقف حرباً مستعرّة دامت تسعة عشر عاماً، وبكل تأكيد سوف يرشّح لجوائز عالمية منها جائزة نوبل للسلام، فالرئيس غني رجل أكاديمي مثقف جداً وكان أستاذاً جامعياً وكان من ضمن المرشحين لخلافة كوفي عنان في منصب الأمين العام للأمم المتحدة عام 2001م، فإن نجح الرئيس فستكون له الحظوة الكبرى من الاهتمام المحلي والعالمي ويكون رمزاً للسلام بخلاف الصقور في إدارته الذين يخسرون الكثير إذا لم يغيّروا موقفهم من المصالحة، فهم ليسوا كالرئيس ولن يكفل الدستور الأفغاني لهم امتيازات طوال حياتهم.
بعد أن تطرّقت إلى الحديث عن الرئيس أشرف غني وصقور الرئاسة الأفغانية، فإنه يجب ألا ننسى بأن الحروب في أفغانستان منذ 40 عاماً كلّفت البلاد أكثر من مليون ونصف المليون شهيد وأرقاماً كبيرة من المهاجرين تجاوزت أعدادهم الخمسة ملايين أفغاني، فالشعب الأفغاني اضطر للتعامل مع الحروب الداخلية فمرة حاربوا السوفييت ومرة التدخل الأميركي ومرة انقسام قادته ونزاعهم على السلطة ودخولهم في حرب أهلية، ومع ذلك انقسم الأفغان بين مؤيد ومعارض للتدخل الأجنبي في البلاد وتحت مسميات مختلفة، ولكن في النهاية كل من قتلوا في هذه الحروب كانوا أفغان، والذين عاصروا التدخلات الأجنبية في أفغانستان استطاعوا إخراج القوات الأجنبية من بلادهم وحتى الذين كانوا يؤيدون قرار التواجد الأجنبي في البلاد أصبحوا الآن يطلبون خروجهم من البلاد.
نعيد ونطرح تساؤلات أخرى لنعي ماذا لو فشلت المصالحة فإلى أي طريق تتجه أفغانستان، هل حكومة الرئيس أشرف غني بحاجة ملحّة إلى وجود القوات الأجنبية للدفاع عن نفسها؟ وهل لدى الحكومة خطة للحصول على الأموال لتغطية العجز في الميزانية العام للدولة والتي تقدّر نسبتها 80٪ والتي تحصل عليها الحكومة سنوياً من الدول والمنظمات المانحة والمساعدة لأفغانستان إذا أوقفت تلك الجهات التبرعات والمساعدات؟ هل أفغانستان متجهة إلى اتفاقية "بون" أخرى لجمع كافة الأطراف الأفغانية وفرض المجتمع الدولي حلولاً تراها مناسبة لأفغانستان، كما حدث في اتفاقية "بون" عام 2001م، أم أن الرئيس غني والمتحالفين معه هم من يقرروا مصير أفغانستان؟ أم أن أفغانستان تؤول إلى ما آلت إليه سوريا وفنزويلا وليبيا بسبب تعنّ الحكومة في المفاوضات؟
إن الشعب الأفغاني يستطيع نسيان مليون ونصف قتيل من أبنائه وتشريد أكثر من خمسة ملايين من أرضهم وهو يريد السلام فقط، إن أغلب المشاركين في الايدلوجيا السياسية التي كانت نتيجتها هذا العدد الهائل من القتلى والمشرّدين هم الآن موجودون في الحكومة ويحصلون على اعتماد البرلمان الأفغاني دون البحث عن ماضيهم وهذا أحسن مثال على التسامح ولكن لابد أن يطبّق هذا التسامح على الجميع لكي تنقذ الأمة الأفغانية وتداوى جراح الماضي، أما أن يتم تسمية جهة بالإرهابيين وتفلت جهة أخرى من كل أخطاء الماضي وتندمج في الحكومة وبين الشعب فهذا لن يحل معضلة أفغانستان.
يجب ألا ننسى بأن حركة طالبان التي يسميها البعض في حكومة الرئيس أشرف غني بالإرهابيين، بدأ مكتبهاالسياسي في استقبال وفود الأمم المتحدة والمبعوث الخاص الباكستاني إلى أفغانستان وزيارات المبعوث الأميركي زلمي خليل زاد، فضلاً على اتصالات المكتب المباشرة مع إندونيسيا وأوزبكستان وروسيا والصين وغيرها من الدول،وهذا يعتبر نجاحاً كبيراً للمكتب السياسي.
كما أن خفض عدد القوات الأميركية المتواجدة في أفغانستان إلى 8600 حسب الاتفاق مع طالبان في وقتها المحدد له دلالات كثيرة، خصوصاً في مشاركة قادة الجيشالأميركي في المفاوضات بين طالبان وأميركا وحضورهم للاجتماعات بمشاركة الجنرال الأميركي سكوت ميلر قائد القوات الأجنبية في أفغانستان، وهذا يدل على أنه حتى وإن خسر دونالد ترمب في سباق الرئاسة الأميركية من الممكن أن تكمل الحكومة الجديدة ما وصلت إليه المفاوضات مع طالبان، لأن الحركة استطاعت إثبات أن لديهم قيادة موحّدة وملتزمون بالاتفاقيات.
إذاً ما هي المشكلة لعدم بدء المفاوضات بين الأفغان على الرغم من مرور عدة أشهر على توقيع الاتفاق الأميركي مع طالبان، أفرجت الحكومة الأفغانية عن ثلاثة آلاف سجين من الحركة وتبقى أكثر من ألفي سجين، فلماذا لا تأخذ الحكومة بزمام المبادرة وتفرج عن بقية السجناء وتبدأ في تفاوض مباشر مع الحركة؟ أم أن السبب في مماطلة الحكومة الأفغانية يعود إلى أمنياتها بأن تتم الانتخابات الأميركية وتكسب الرهان في خسارة ترمب ومن ثم تستبدل الحكومة الجديدة مبعوثها زلمي خليل زاد وتعيد التفاوض على ذلك من جديد وتعود الأمور إلى نقطة الصفر.
هل باستطاعة الصقور في إدارة الرئيس غني تغيير رأي المجتمع الدولي وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء بعد أن زادت مبادرات ودعم المجتمع الدولي من حلف الناتو والأمم المتحدة وغيرها من الدول لعملية المصالحة ومطالباتها ببدء عاجل للمفاوضات بين الأفغان وهي الآن أولوية قصوى للمجتمع الدولي؟
في خطوة جديدة من الحكومة، قام الدكتور حمد الله محب خلال الشهر الجاري بزيارة ضريحين لقائديْن سابقين متضادّيْن في أفغانستان وهما ضريح أحمد شاه مسعود وزير دفاع حكومة الرئيس برهان الدين رباني وهو من قادة الجهاد الأفغاني، وكذلك ضريح الرئيس الراحل الدكتور نجيب الله الذي استلم منصب الرئاسة الأفغانية من 1992-1987م وهو الأمين العام للحزب الشعبي الديمقراطي الشيوعي المعروف في أفغانستان بحزب "خلق"، فما هي دلالات هذه الزيارات المهمة لمستقبل أفغانستان خصوصاً وأنه لم يقم أحد من المسؤولين بزيارة قبر الرئيس الشيوعي منذ أن قُتِل في 1996م؟ وهل يحاول مستشار الأمن الوطني الشاب الحصول على دعم من أعضاء حزب خلق الشيوعي وإعادة تشكيلهم من جديد بدعم حكومي وتحت مسمى جديد، وأيضاً في سبيل حصول الحكومة على دعم الأحزاب السياسية بعد إحيائها من جديد وتقوية الجانب التفاوضي للحكومة؟ وهل نحن بانتظار زيارة الدكتور حمد الله محب في يوم من الأيام لقبر الملا عمر زعيم طالبان بعد توقيع اتفاق السلام؟ وهل يتم حينها اعتبار الملا عمر بطلاً أفغانياً ضمن الأبطال الذين ناضلوا من أجل أرضهم وأخرجوا القوات الأجنبية؟
بعد هذه النجاحات الكبيرة التي حصل عليها مستشار الرئيس للأمن الوطني في لم شمل السياسيين ولعبه دوراًمحورياً في إعادة الكثير من الزعماء السياسيين الذين ابتعدوا عن الرئيس غني خلال السنوات الماضية، فهو مهندس التفاوض مع الدكتور عبد الله عبد الله والعقل المفكّر في إرضاء الرئيس السابق حامد كرزي وضمّ أخيه كوزير في الحكومة الجديدة كإرضاء له، وهو من أعاد وزير الخارجية الحالي حنيف أتمر إلى صف الرئيس، وكذلك فعل بإعادة الرئيس التنفيذي لحزب الجمعية الإسلامية عطا محمد نور وهو الذي كان من أشد منتقدي الرئيس غني، والعديد من السياسيين المؤثرين في أفغانستان، فهل يحاول المستشار الشاب الحصول على دعم من أعضاء الحزب الشيوعي الأفغاني وإعادة تشكيلهم من جديد وبدعم حكومي ولكن تحت مسمى جديد؟ وهل هو بحاجة إلى هذا الآن لتقوية موقف الحكومة التفاوضي مع طالبان؟ وهل هذا تخطيط مستقبلي بحيث يكون مرشحاً محتملاً في أية انتخابات من قِبَل الحكومة؟
إن الأفغان على أتم الاستعداد بأن ينسوا ماضي السياسيين وقادتهم والتعايش مع واقع جديد يرسم مستقبل أفغانستان ويؤمن بأن الحرب ليست طريقاً للسلام، وأن يتم اعتبار دماء المليون ونصف شهيد كانت فداءً لأن تحظى الأجيال القادمة بمستقبل أفضل من الآن ويعيش الأبناء في أمن وأمان ولتكون أفغانستان وطن الجميع وشمولية لكافة الأحزاب وتكون مظلة لقومياتها المختلفة من البشتون والطاجيك والهزارة والأوزبك والبلوش وغيرها من القوميات الأفغانية ويحظى كلهم بحقوق المواطنة دون إقصاء أي قومية في المستقبل مهما كان السبب وألا يكون المستقبل مبنياً على رابح أو خاسر، بل يجب أن يكون الجميع رابح في سبيل السلام.
ولكن كل هذا يعتمد على الأسلوب التفاوضي بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان، وأن يكون باستطاعة الحكومة لمّ شمل الأحزاب السياسية والليبرالية والإسلامية تحت جناحها والدخول في المفاوضات بقوة، أو تستطيع طالبان إقناع هذه الأحزاب والمثقفين الأفغان في الداخل والخارج والدخول في المفاوضات كمستقلّين، وهذا يضعّف موقف الحكومة الأفغانيةخصوصاً وأن تجربة الأحزاب الإسلامية مع الحكومة خلال السنوات الأخيرة لم تكن مشجعة لهم وأيضاً المثقفين الأفغان وجيل الشباب الذين واجهوا تهميشاً كبيراً وأرهقوا من تفشي الفساد وعدم استتباب الأمن والاستقرار في البلاد.
هذا ما نراه خلال الاثنا عشر شهراً القادمة، بأن تستمر الحياة السياسية كما كانت عليه في السابق مع دخول طالبان في الحكومة أو إحداث تغيير جذري في الحكم وبداية فجر جديد لأفغانستان.
ونترك الحكم للتاريخ وترى الأجيال القادمة من كان على الحق؟ هل الذين دعموا تواجد القوات الأجنبية في أفغانستان؟ أم الذين حاربوا تلك القوات واعتبرتها قوات غازية ونالوا ما يريدون من رغبتهم بخروج تلك القوات؟ سواء كان خروج من جانب واحد مثلما حصل مع السوفييت أو اتفاق مبرم مثل الاتفاق مع أميركا دون أن يضر ذلك باسم أميركا، رغم اتهامهم وتسميتهم بمصطلحات متعددة من قبل أغلب الحكومات السابقة، هل تضل هذه المسميات ملازمة لهم مستقبلاً أم أنه يتم اعتبار موتاهم شهداء، وأحياؤهم يتم تضخيمهم بألقاب مثل "الغازي" كما حصل مع القادة الأفغان الذين استقلوا بأفغانستان عن الاحتلال البريطاني والذين أخرجوا القوات السوفييتية من أفغانستان؟
التعليقات