نتداول بالتراث الأردني وربما بالعربي أيضًا مثلًا دارجًا وهو ( يكفيك شر شاب إذا تغرَّب وشايب ماتت أجياله) وسبب هذا المثل أن المجال مفتوح لهذين الصنفين من البشر أن يقولوا ما يشاؤوا لأنه لا شاهد نفي موجودٌ لينفي أو يُصدِّق ما يمكن أن يحلق به خيالهم حول قصصهم ويجعلها مثارًا للشك. ومن سوء حظ هؤلاء أنه ومع تقدم التكنولوجيا أصبحت فرصتهم بالزيادة أو النقصان لروياتهم ضعيفة لأن نقض حديثهما سيسهل على المستمع عند البحث عن مصدر الرواية. تذكرت المثل السابق وأنا أتابع هذا السيل العرم من كُتّاب المذكرات الشخصية؛ وبالمناسبة فإن كتابة المذكرات ليست حِكرًا على كبار القوم فالمجال مفتوح للجميع ولكن اهتمام الإعلام ينصب دائمًا على شخصية وكاريزما الراوي نفسه وما يحمل في روايته من أحداث.
وكتابة المذكرات قديمة طبعًا ولكنها لم تكن بهذا الانتشار إلا بنهايات القرن الماضي لدخول الفضائيات هذا المجال، وكان للجزيرة التفرد بالبداية بنشر تحليلات محمد حسنين هيكل، وهي وإن كانت تحليلات سياسية إلا أنه يمكن أن تعتبر نوعًا من المذكرات أو السيرة الذاتية للسيد هيكل، فضمير المتكلم (أنا) منفصلًا أو متصلًا، ظاهرًا أو مستترًا كان دومًا موجودًا بين سطوره. لذلك هي مذكرات أو كما جاء ببرنامج الجزيرة لاحقًا عندما راقت الفكرة لأصحاب القناة فاخترعوا لنا ما يسمى ببرنامج ( شاهد على العصر) الذي كان موجهًا بامتياز لغايات محددة. وفي هذا البرنامج حلَّق كل (الشياب الذين ماتت أجيالهم) للحديث عن أهم الأحداث كما يشاؤون؛ ولجأت الجزيرة طبعًا للأشخاص الجدليين في بلدانهم حتى يحققوا قفزات إعلامية كبيرة.
وعندما يخطر ببالك أن تسأل عن كمية أو أهمية الإضافة التي اضافتها هذه الشهادة على العصر تجد أنها ليست بهذا القدر المهم، أو تحاول أن تجد سببًا مقنعًا لهذا الانتشار الكبير للمذكرات فلا تجد إلا رغبة عند الشهود بتتبع سقطات السياسيين في بلدانهم أكثر من الأفعال نفسها، ورغبة من المشاهدين بتتبع عورات مسؤوليهم؛ أقصد أنه لم يكن هناك داعٍ لكل هذا بما أن كل ما أورده أصحاب الشهادات مكتوب بالكثير من الكتب باستثناء بعض التعليقات التي تُعبِّر عن شعور شخصي من صاحب الشهادة تجاه الشخص موضع الشهادة، وهذه لا علاقة له بالحدث نفسه وعادة يسقطها المحررون عند تنسيق الكتاب. وهنا تذكرت مقولة سيدنا عمر لعمرو بن العاص عن مكتبة الاسكندرية بشأن الكتب فيها حيث قال إن كان فيها ما جاء بالقرءان فعندنا كتاب الله، وإن كان فيها ما لا يوجد بالقرءان فقد أغنانا الله عنه. وطعبًا هذه نقضها عباس محمود العقاد في كتابه عبقرية عمر. فكل ما حدث بحرب اكتوبر مثلًا موجود بالكتب فما الداعي لمقابلة الصحفي فلان أو المشير علان ليحدثنا عن أكتوبر على التلفزيون!!!
إذا لم يبقَ بالإضافة للشهرة الإعلامية للقناة إلا الابتزاز الرخيص أو التحرش بالشخصيات السياسية التي على رأس عملها أو الدول نفسها نفسها وبالتالي تصبح القناة رُمحَ ممولها لمحاربة الدول الأخرى؛ فإذا أرادت دولة أو قناة أن تلوي ذراع دولة أخرى أحضروا منها شخصية تبحث عن مجدٍ زال ولن يعود ليحدثنا باسم التوثيق أو الشهادة عن أحداث جدلية لتثير فتنة طائفية أو عرقية أو سياسية أو مذهبية، وتعطيه الكامرا ليسرح ويمرح مُوجَهًا من مذيع محترف له أجندته الخاصة أضافة طبعًا لأجندة القناة فيعصره بأسئلة دقيقة تجعل الضيف ألعوبةً ساذجةً بيده. وربما يكون الابتزاز ماليًا لتسكت القناة عن بلاوي هذه البلد أو الشخصية الضحية. ويذكر معظمنا فلم الراقصة والسياسي عندما أرادت الراقصة أن تكتب مذكراتها؛ انهالت عليها العروض بالملايين لتسكت. ويبدو أن موضوع المذكرات أو هذا النوع منه قد راق للجمهور فأصبح متابعًا قويًا للقنوات وأصبح السائد هو مبدأ (الجمهور عاوز كده) وكثر جمهوره فاندفعت معظم القنوات تضخ الحلقات الكثيرة من هذه المذكرات مع الجميع.
إن أكبر ضرر يمكن أن تقدمه هذه المذكرات على اختلاف مسمياتها لجمهورها هي أنه توقعه في تناقض فبدلًا من خلق جيلٍ يبحث عن الحقيقة نجده تائهًا يُصدِّق هذا أو ذاك بكثرة المتناقضات فيصبح من جماعة ( والله الراجل ده بيتكلم كلام زي الفل) لينطلق لمحطة أخرة فيقول نفس ما قاله عن السابق رغم تناقض المحتويين كما جاء بفلم السفارة بالعمارة لعادل إمام؛ فقد يتصادف أن يكون نفس الموضوع مطروحًا على قناتين متناحرتين تُسبٍّح كلٌ منهما بفلك دولتها. إذا أي قيمة يمكن أن تحصل عليها عندما تسمع من هذا أو ذاك.
هذه الأيام أتابع برنامجًا ينشر مذكرات شخصية على إحدى القنوات وهو تمامًا كغيره من البرنامج لكن ربما كان أصدق من الآخرين فذهب إلى جوهر الأشياء وجلّل اسمه باللون الأسود؛ أي أنه مختص بالسواد من هذه الأمة. لم أرتح لكل ما سمعت باستثناء شهادة أو صندوق الدكتور عبد الله النفيسي وهو رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الكويت. لقد جمع الدكتور النفيسي بين تسجيل حوادث التاريخ وتحليلاته السياسية لها فكان مؤرِّخًا ومحللًا في نفس الوقت وأنا بطبعي أرتاح لمثل هؤلاء الشهود على العصر؛ لا أريده فقط ناقلًا للحدث بل أريد أن أراه هو (المحلل) بين السطور. وربما يسأل سائل وما الجديد فيما قدمه الدكتور النفيسي حتى نال رضاي؟ وأجيب أن ما عرضه أو شهد به الدكتور النفيسي وافق هوى نفسي أنا فاعتبرته شهادة لصالح معلوماتي، أي أن أفكاره تطابقت مع أفكاري الشخصية حول الأحدث المشتركة بيننا. فقد عرض لأحداث تأثر بها الأردن، وكذلك عرض لأحداث قوية وقديمة في بلدٍ عملتُ فيه ربع قرن وكان صادقًا أيضًا ومطابقة لما سمعت من أهل تلك البلد أنفسهم.
إن كان من فائدة لكل ما سبق من أحاديث الذكريات أو المذكرات أنها استغلت ضعف الإقبال على الكتب فتوجهت لصياغة كل هذا ببرامج مسجلة فجمعت بين المعلومة والترفيه. وهنا تشترك مع مهنة الحكواتي بمقاهي زمان والتي يخرج منها السامع بالكثير من المتعة وربما بالكثير من المعلومة حسب قدرة الحكواتي على التمثيل للوقائع؛ وأسوأ انواع حكواتية هذه الأيام هم المسؤولون السابقون فلا يُمتع حديثُهم ولا تصدق روايتهم إلا إذا ماتت أجيالهم عندها لن يوجد من يقول لهم : كفى.
دمتم بخير
[email protected]
التعليقات