تعيش تونس منذ عشرة أعوام أزمات سياسية خانقة عطلت الحركة الاقتصادية، ومزقت أوصال البلاد إلى ملل ونحل، وأغرقت الأحزاب التي جاءت بها ثورة" الكرامة والحرية" في نزاعات وصراعات عقائدية وايديولوجية مدمرة، وسمحت لمنعدمي الكفاءة، وللفاسدين، ولدعاة التطرف بأن يتحكموا في أجهزة الدولة، وفي مؤسساتها...

وفي بداية صيف هذا العام، أطل على التونسيين من جديد شبح الخوف على مصيرهم ومستقبلهم بعد أن استفحلت الأزمة، وباتت أخطارها تهددهم بأشكال جديدة من الفوضى قد تقود بلادهم إلى المزيد من المصائب والكوارث على جميع الأصعدة، السياسية منها،

والاقتصادية، والاجتماعية وغيرها.
والملفت للانتباه أن هذه الفوضى التي تتخذ أشكالا مختلفة ومتعددة، اقتحمت البرلمان في ضاحية باردو لتعطل أشغاله، وتزرع الفرقة بين النواب، محولة قاعة الاجتماعات الكبرى إلى حلبة لصراعات مدمرة نسفت كل ما يمكن أن بفضي إلى التوافق المرجو والمرغوب من التونسيين المطلين على مهاوي سوداء...

ومنذ عدة أسابيع لا يكاد يمر يوم واحد من دون أن يشاهد التونسيون على القنوات التلفزيونية معارك طاحنة بين نواب ونائبات تصل غالب الأحيان الى تشابك بالأيدي، وتبادل الشتائم المقذعة، والتراشق بالكلمات البذيئة التي يتقنها فتوات الأحياء الخلفية، ومن جاراهم في فساد اللغة والأخلاق...وكل نائب عن هذا الحزب أو ذاك يزعم أنه "يتمتع بشرعية شعبية" تخول له أن يفعل ما يشاء وما يريد...وفي النهاية، تكون الغلبة لأصحاب الألسن الطويلة، ولمزيفي الحقائق، ولمدبري الدسائس والمؤامرات الدنيئة، و ل" الثرثارين المُتفيقهين"، ولدعاة التطرف والفتن.
ومن بين أسباب هذه الفوضى العارمة التي حولت العمل البرلماني إلى مسرحية مضحكة مبكية، وإلى ألاعيب سخيفة وخطيرة في نفس الوقت، هي أن الديمقراطية التي جاءت بها" ثورة الحرية الكرامة" هي في الحقيقة مزيفة، وباطلة، ووسيلة لأحزاب وتنظيمات للسيطرة على الدولة، وتدميرها من الداخل، وبسط أشكال جديدة من الاستبداد والطغيان. وقد أباحت هذه الديمقراطية المزيفة تواجد ما يزيد على220 حزبا، جميعها تلوح بالوعود الكاذبة، وبالشعارات الشعبوية المقيتة، من دون أن تملك برامج واضحة تعالج الأزمات الخانقة التي تتخبط فيها البلاد، والتي قد تفضي إلى افلاس مالي واقتصادي خصوصا في هذه الفترة التي يعاني فيها العالم برمته من تبعات جائحة الكورونا...

واعتمادا على قانون انتخابي أخرق جاء به دستور هجين، فتحت أبواب البرلمان التونسي أمام فاسدين، وملاحقين قضائيا، ومنعدمي الكفاءة، والجهلة بالقوانين وبأبسط قواعد تسيير شؤون الدولة. كما فتح أمام من لا هدف لهم سوى تصفية حسابتهم مع خصومهم مع الأحياء والأموات، وفرض نمط اجتماعي مخالف لعادات وتقاليد التونسيين...

وأما السبب الآخر في استفحال الفوضى داخل البرلمان التونسي فهو رئيسه، راشد الغنوشي الذي يتصرف ك"رئيس قبيلة" منتصرا لجماعته، للموالين له، ونابذا بطرق شتى كل المخالفين له في الرأي، وفي طريقته في تسيير جلسات البرلمان. وبمثل هذه التصرفات، أكد راشد الغنوشي مرة أخرى أنه لا يمكن أن يكون رجل التوافق والحوار الديمقراطي النزيه والبناء. ولعل ذلك يعود إلى أنه لا يؤمن في الحقيقة بالديمقراطية في معناها الصحيح، بل هو يركب عليها، ويستعملها لأهداف ومصالح حركته التي تعودت منذ نشأتها على اقصاء كل من يعارض توجهاتها الايديولوجية، والدينية. كما أن راشد الغنوشي تعود على العمل في ظلمة السرية.. ومكبل مرة أخرى بقيود يصعب عليه الفكاك منها.

غير أن حركة النهضة وحلفاءها ينفون عن أنفسهم تهمة استفحال الفوضى داخل البرلمان، ملقين المسؤولية على السيدة عبير موسي، زعيمة الحزب الدستوري الحر. والحال أن عبير موسي لم تفعل شيئا آخر غير التمسك بالقوانين، مطالبة بتطبيقها على الجميع من دون استثناء، ومحذرة من مخاطر تخريب الدولة ومؤسساتها من الداخل، وفاضحة بالحجج الدامغة من يحتمون بمناصبهم الرفيعة، وبحصانتهم البرلمانية لكي ينجزوا في الخفاء مشاريعهم المعادية لمصلحة البلاد والعباد. من ذلك مثلا أنها رفضت السماح لدعاة العنف والفوضى دخول البرلمان بدعوى زيارة أصدقائهم. كما أنها تصدت لمن يخططون لتوريط تونس في الصراعات الليبية-الليبية، وجعلها ممرا لمن يرغبون في اذكاء مثل هذه الصراعات لإغراق ليبيا في الفتن الدموية القاتلة.