في مطلع السبعينات من القرن الماضي، وتحديد في عام 1973، استلم الحكم في ما كان يسمى باليمن الجنوبي مجموعة من الشبان المفتونين بالاشتراكية ، وبكارل ماركس ولينين، واعدين بإقامة أول نظام شيوعي في البلاد العربية. وهؤلاء الشبان كانوا : عبد الفتاح إسماعيل، وعلي عنتر، وبوبكر العطاس، وعلي ناصر محمد، وعلي سالم البيض، وحيدر أبو بكر...وقد أبهر هؤلاء الرفاق كل الحركات والتيارات المناصرة للشيوعية باعتبارهم يخوضون تجربة فريدة في عالم عربي يرزح تحت أنظمة استبدادية وعسكرية ورجعية... كما أبهر المثقفين التقدميين مشرقا ومغربا ليسارع هؤلاء بتقديم الدعم المعنوي والايديولوجي الكامل لرفاق اليمن ظانين أنهم قادرون فعلا على تحقيق الحلم الذي كانوا يظنون أنه مستحيل في عالم عربي تعود على تذوق مرارة الهزائم والانكسارات والخيبات... والبعض من هؤلاء المثقفين التقدميين الكبار زاروا عدن في تلك الفترة، وعادوا بانطباعات جيدة وإيجابية عن تجربة الرفاق في اليمن الجنوبي... واحد فقط انتقد تجربتهم، وهو المفكر التونسي الراحل العفيف الأخضر إذ قال متهكما: "الرفاق في عدن يتحدثون عن الإصلاح الزراعي في بلادهم كما لو أنهم يملكون أراضي أوكرانيا"... وما نفهمه من خلال هذا التعليق الساخر هون أن الرفاق في اليمن، مثل كل الشيوعيين في جميع أنحاء العالم، تُعْميهم النظريات العامة التي تعج بها المؤلفات الماركسية، واللينينية وغيرها عن الواقع ليراكموا الأخطاء تلو الأخطاء... وفي النهاية يحصدون الخسران والفشل والهزيمة...
وهذا ما حدث للرفاق اليمينيين ... ففي الثالث عشر من شهر يناير-جانفي-1986، اندلعت حرب أهلية في عدن، وقتل عبد الفتاح إسماعيل وآلاف من قادة الحزب الاشتراكي وكوادره في بضعة أيام...ومن تبقى منهم فرّ هاربا بجلده...حدث ذلك قبل أن يسقط جدار برلين بثلاث سنوات وثمانية أشهر...
وشخصيا لا أعتقد أن هناك عملا أدبيا جيدا يتطرق إلى خفايا التجربة الاشتراكية اليمنية مثل قصة الكويتي محمد الشارخ التي عنوانها "بيبسي". والحقيقة أن هذا العمل الأدبي ليس قصة، بل رواية قصيرة مكثفة، اعتمد فيها صاحبها على الدعابة التي لا تكاد تختلف عن تلك التي تميزت بها أعمال الروسي العظيم نيكولاي غوغول، ليرسم صورة مرعبة عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية في زمن اليمن الشيوعي، ونظام الرفاق الذين كانوا يفاخرون بصلابتهم العقائدية والأيديولوجية، وبوفائهم المطلق للماركسية -اللينينية في "جوهرها الصحيح".
وهذه الرواية القصيرة البديعة ترتكز على تجربة شخصية عاشها الكاتب. فقد سافر محمد الشارخ إلى الى مدينة تعز، ثم إلى عدن بهدف تصفية ملف مصنع" البيبسي" الذي أقامه والده هناك بعد أن قام الرفاق الشيوعيون بتأمينه ليصبح ملكا للنظام الاشتراكي. وقد ظن محمد الشارخ أنه بإمكانه أن يجد حلا لهذا الملف لأنه كان قد تعرف على البعض من قادة الحزب الاشتراكي في سنوات الدراسة الجامعية في بيروت. وكان دؤوبا على حضور اجتماعاتهم وسهراتهم التي تستمر حتى الصباح، والتي تخصص دائما لنقاشات نظرية حول الاشتراكية وفوائدها ونعمها... وكان الود سائدا بين الرفاق في ذلك الوقت فلا يظن من يستمع إليهم وهو يتجادلون أنهم سيتقاتلون ذات يوم، وسوف تنتهي تجربتهم بمجازر فظيعة لا تزال جراحها العميقة مفتوحة إلى اليوم...
لكن حال وصوله إلى هناك، يصطدم محمد الشارخ بحقائق مريرة ليعيش أحداثا "أغرب من الخيال والواقع"، ولتكون رحلته سلسلة من الكوابيس المرعبة. فقد لاحظ أن أصدقاءه القدماء خصصوا له مخبرين لمراقبة حركاته وسكناته. كما لاحظ أن الرفاق يتصارعون في الخفاء، وأن البعض منهم اختفوا في "وجبات التصفيات المتواصلة كما هو الحال في ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي في زمن ستالين...وعوض أن توحدهم، فرّقتهم التجربة الاشتراكية، وشتتهم مللا ونحلا... وكل فريق يرى أنه الأصلح. لذا يجوز له أن يقوم بتصفية الفريق الآخر، ويلقي بجثة هذا الرفيق أ و ذاك إلى الكلاب بعد أن دُرّبت جيدا على اكل لحوم البشر...
ومنذ البداية يلازم الخوف محمد الشارخ... بلازمه وهو يركب طائرة قديمة من زمن الحب الكونية الثانية من تعز إلى عدن.. وهذه الطائرة التي تحمل مسافرين وعفشهم وأقفاص الدجاج تطير منخفضة، ويفتح بابها الخلفي للتهوئة، وفيها تعدّ القهوة على "البريموس"...وحين يصل إلى عدن، يتفاقم خوف محمد الشارخ. فالرفاق القدماء يعاملونه الآن ك "بورجوازي قذر" ، وك "رأسمالي جشع"... لذا يمكن أن يجد نفسه في أي لحظة في زنزانة رمادية في انتظار ما هو أسوأ وأمر... وهذا الخوف الذي له نفس الصورة السوداء للخوف في رواية "1984" لجورج أورويل، يمنع النوم على محمد الشارخ، ويُحوّله إلى كائن مَسْلوبَ الإرادة لا يعرف لا ما يقول ، ولا ما يفعل... خوف يشمه في الهواء الثقيل الذي يتنفّسه، وفي حركات الرفاق، وفي حديثهم البطيء المُلغّم بالألغاز، وفي ضحكاتهم الساخرة، وفي نظارتهم الحذرة، وفي كل شيء يأتون به... خوف يُشْعره أنه بصدد النزول إلى أعماق الجحيم كما في "الكوميديا الإلهية لدانتي...