أنا لست كرديا في القومية، ولا كرديا في اللغة، ولست مولودا في مدينة كردية، لكنني كردي في الإنسانية والعقل والقضية، والأكراد قومية مثل القوميات الأخرى التي تبحث عن وجودها وحقوقها، وهي حقوق إنسانية وقانونية بالمعايير الدولية، فنحن اليوم في عالم متغير منفتح على الديمقراطيات وحقوق الإنسان، وتحولات اتصالية رقمية متسارعة تتشابك بها الإنسانية لتؤسس نماذج من دمقرطة الحياة السياسية والمعرفة، وصولاً إلى الموجة الخامسة، وهي دمقرطة الديمقراطية لقتل العنصرية المتفشية في بعض الأقوام والبشر وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتنشيط فكرة المواطنة وحقوق الإنسان.

قصة الأكراد في قرنٍ تتلخَّص في أنهم عاشوا القمع والاضطهاد والثورات والخيبات وحلم الدولة الدائم، ومن سوء حظهم أنهم كانوا ضحية صراعات الآخرين وأطماعهم وفاشيتهم، واتفاقات ظالمة كاتفاقية لوزان التي منعتهم من تأسيس دولة كردية رغم عددهم البالغ أكثر من 30 مليوناً في العالم، كما كانوا ضحية تحالفت دول يتواجد فيها الأكراد بحجم أكبر لغلق منافذ الحياة عليهم، ومنعهم من التنمية السياسية والحضرية والمعرفية، فأغلقوا على أبناءهم التعلم والنطق بلغاتهم، وتفننوا في قمعهم واضطهادهم، والاهم قتل أحلامهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم،وإنشاء دولة تكون لهم خيمة تقييهم من ظلم الحكام، وعنصرّية من يرى أنه الأنقى دما، والأذكى معرفة!
بالمقارنات البسيطة، فالعقل الكردي له امتيازات بهية في طريقة حياته، وتقبله للآخر، وتسامحه وبساطته وطيبته المتناهية، واستيعابه للتحديث والتحضر، فقد بنى في الإقليم أحلى المدن وأنظفها (أربيل نموذجاً)، وأنعش السياحة وحياة الرفاهية لمواطنيه من خلال وسائل الترفيه المتطورة، وطرز المدن بجمالية المجمعات السكنية الراقية، والأبراج الشاهقة والشوارع العملاقة، رغم الحصار والتجويع، والأهم خلق شعباً منفتحاً مع الآخر، متسامحاً مع أبنائه، ومع من يعيش في مدنهم من كل الأعراق والقوميات والأديان، متفاعلاً مع متغيرات العالم، وطموحاً في تأسيس دولة كردية تحترم كيانه ووجوده وإنسانيته.

بينما العقل السياسي لمن يحكمون في المركز، قد تفنن في قتل الأحلام الوردية التي كان يحلم بها العراقي، فصدروا غيبيات الماضي وطقوسه، وأنعشوا الوطن بالولاءات الطائفية والدينية والقومية، وجلبوا بسياستهم داعش الإرهابي المجرم وثقافة نحر البشر، بل هدموا جذوة الوطنية، وزرعوا بذور العمالة في الوطن، وجعلوا العباد أشتاتاً لدول مختلفة نستجدي منهم الماء والكهرباء والغاز والنفط والخضراوات واللبن الإيراني والتركي، بل أصبح خزينا للأفيون والمخدرات وحبوب الهلوسة لقتل شباب الوطن.

دعونا نفك التشفير: تشفير العقل، ونتحدث بلغة الواقع، لا لغة التنظيرات، أن الأقليم بوطنية قادته وولائهم لقضيتهم، وطيبة مواطنيه، وحرصهم على بناء دولتهم، استطاع رغم صغر مساحته، وموارده الشحيحة، وحصار المركز عليه، أن يبني تجربة فريدة في البناء والتنظيم والاستقرار، فأسس نظاماً أمنيّاً صارماً ليحمي شعبه والمهاجرين، أفضل من دولة المركز التي تمتلك مليارات الدولات، ولم تتمكن من بناء حجر جديد، وعقلية وطنية نظيفة، وديمقراطية عادلة، بل أسست نظاماً طائفيّاً خطيراً، ودولة فاشلة بامتياز، فصنعت عنصرية مقيته، ومجتمعاً متفككاً قيميّاً، بلا روابطَ إنسانيةٍ، وبيئة فاسدة ملوثة بدخان الطمع والنهب والسرقات، وحولت الناس إلى موتى لا أمل لهم بالحياة والمستقبل.

أليس الكردي اليوم سعيداً عندما يخرج للشوارع، وينام مطمئنّاً بنعمة الأمن، بينما الآخر في دولة الديمقراطية ينتظر الموت في كل لحظة، وينام على موسيقى أسلحة وبارود وسيوف اللصوص والمليشيات؟! بل المضحك والمبكي أن تكون ملاذاً أيضا لرجال الحكومة وسياسيي العملية السياسية، الذين يصرون بعقلهم الجاهلي على نشر فتاوي العنصرية والحقد ضد الكرد، على طريقة المثل الشعبي (بالوجه إمرايه وبالظهر سلاية)، أو (زبّالْ وصار طبّالْ)! أنا أراهن أن الناس، وأنا منهم، لو خيرتهم بين العيش في مدن العراق وبين أربيل، فإن القرار سيكون لأربيل، الأميرة الجميلة بحكمتها وتاريخها وأمنها المستقر!
سأقول بالفم المليان: المدرسة الكردية في البناء والتسامح، هي الأفضل في العراق، وأحترم الكرد ووطنيتهم وأصالتهم وطيبتهم، وتجربتهم في البناء، فأنا لست من عائلة البرزاني، ولم ألتق الرجل، وليست لي مصالح في إقليمه والحمد الله، لكني أنتمي إلى منطق العقل والحكمة؛ محاولاً توصيف حالة، وليس تنظيراً لمفهوم الديمقراطية والدكتاتورية، بغض النظر عن الحالة العامة للقضية الكردية وملابساتها وتعقيداتها، كما أعترف أيضا بأنني لا أعطي صورة وردية للإقليم وتوجهاته، ولا أريد أن أجعل الإقليم مدينة فاضلة تشبه مدن أفلاطون والفارابي، وإنما أحاول إثبات أن الأفعال لا الأقوال هي أساس الوطنية والإخلاص للقضية، فما فائدة وطن يتحدث ساسته أقوالا نظرية عن الديمقراطية ليلَ نهار، وشعوبهم جائعة، ومدنهم خربة، وأمنهم منفلت، وأحياؤهم مكدسة بالسلاح والكاتيوشا، وشوارعهم غارقة بالمزابل وجثث العباد؟!

لنتفق أن الجميع يعاني من الفساد، ولنستخدم الضرب والقسمة، وقوانين التنمية، ونسأل: من الذي أعطى لشعبه خلال ربع قرن، من بناء المدن الحديثة، وطاقة الكهرباء، والبنى التحتية، وأنعش الدولة بالاستثمار، وبناء المؤسسات الحديثة؟ ومن الذي أخذ وأعطى، وأخذ ولم يعط؟ فهل نحتاج إلى فك التشفير، وأمامنا واقع ووقائع، ودلالات بصرية، لا تخطئها العين، ولا يرفضها العقل، بين مشهدين: مشهد الهدم والخراب لكل مدن العراق الاتحادي، ومنهجية لتفكيك المجتمع العراقي، وزرع الغيبيات والعنف والكره في العقول، ومشهد آخر لأقليم كردستان النابض بالحياة والأمن الجميل، وملاذ المهجرين والمظلومين الباحثين عن مكان للحياة الطبيعية، حيث الأمن والاستقرار واحترام كرامة الإنسان؟!

متى نتعّود على ثقافة العقلانية بشجاعة لنكتب الحقيقة مهما كان لونها ورائحتها؟ لأنني أعرف مقدَّماً إن هناك عقولاً مريضة بالعنصرية تعترض على قول الحق، لأن عقليتنا مازالت تتحكم بها العاطفة أكثر من العقل وحكمة الرأي، والعنصرية أكثر من الإنسانية، وأعرف مقدماً أن الكثير منا يمتلك صورة نمطية مسبقة تشكلت عبر الزمن والأحداث عن الكرد، وأعرف أيضاً أن الكثير سيفزع من كلمة الشجاعة والوطنية، لأنهم سيربطونها بتاريخ الأجداد والقوميات والثورات والقبائل.
أتمنى أن تصل الرسالة للجميع بدلالاتها الوطنية، وفكرتها المختصرة، وأن لا ننظر للنصف الفارغ من الكأس، وإنما يجب أن ننظر إلى النصف الممتلئ!

كان ديكارت محقا عندما قال إن الشيء المقرف في الديمقراطية أنك تضطر لسماع الأحمق!

ومن سوء الحظ أن الحمقى في بلادنا لا يموتون، لأنهم يتناسلون ويتوالدون ولا يتغيرون، ولو قلت لأحدهم: (كلُّ ابنِ آدمَ خطّاء)، لقال لك: إلا أنا! فلست خطاءً لأتوب!

وقيل، من يستطيع تعليم القرد الرقص، يستطيع تعليم الحمار!