بلدان عربية ومشرقية تتنازع حول جنسية وهوية العلامة ابن خلدون صاحب كتاب "المقدمة" ذائع الصيت. فاليمن تقول بإنه ابنها معتمدة في ذلك على أنه يشير في بداية "التعريف" بأن نَسَبَ عائلته يعود إلى حضرموت، من عرب اليمن، وإلى وائل بن حجر من قبائل العرب "معروف وله صحبة". ويقال أنه وَفَدَ على الرسول فبَسَطَ له رداءه، وأجلسه عليه، وقال له :"اللهم بارك وائل بن حجر وولده وولد ولده إلى يوم القيامة". وتونس تقول بإن صاحب "المقدمة" ابنها. وحجتها أنه ولد ونشأ فيها، وفي جامع الزيتونة المعمور، دَرٍسَ على شيوخ أجلاء ، وبهم سيتأثر في ما بعد ، خصوصا بالشيخ المغربي الأيلي الذي سوف يلتحق به في فاس بعد أن فتك الطاعون بأهله. وقد عاش ابن خلدون في تونس حتى بلوغه سن العشرين، ثم غادرها إلى المغرب، ولم يعد إليها إلاّ وهو على مشارف الأربعين.

وفي فاس المغربية التي كانت آنذاك عاصمة السياسة والعلوم الدينية والفقهية وغيرها، واصل ابن خلدون في جامع القرويين النّهْلَ من مختلف المعارف تحت اشراف شيوخ أجلاء كانوا مُتَبَحّرين في علوم اللغة والفقه والتاريخ، وحتى في الفلسفة. ولم يكتفي بذلك، بل اقتحم عالم السياسة ليتعرف على خفاياها وأسرارها، مُكْتسبا خبرة واسعة سوف تكون له نافعة ومفيدة في أوقات الأزمات العسيرة. ويمكن القول أن ابن خلدون بلغ النضجَ السياسي والمعرفي خلال السنوات الطويلة التي أمضاها في فاس التي اكتوى فيها بتجربة السجن بتهمة المشاركة في مؤامرة ضد السلطان المريني. لذا يحق للمغاربة أن يدعوا أن ابن خلدون هو أحد أبنائهم البررة. وليس من الغريب أن تحتفي الجزائر التي كانت تسمى ب"المغرب الأوسط" به. فقد أمضى فيها سنوات طويلة من حياته. وكان شاهدا على الحروب الضارية بين الاخوة الأعداء بسبب الطموح إلى السلطة. كما أن ابن خلدون كتب "المقدمة" في قلعة "بني سلامة" قرب تلمسان. لذا من حق الجزائر أن تنسبه إليها. ونفس الحالة تنطبق على مصر الذي ذهب إليها بعد أن دبرت ضده في تونس مؤامرات خسيسة بسبب شهرته في التدريس في جامع الزيتونة، وفيها تولى القضاء، وفيها توفي. وقد يكون هدفه الأساسي من التوجه إلى المشرق العربي هو الإحاطة بشؤون العالم الإسلامي الذي كان آنذاك على وشك الدخول في عصور الانحطاط والجمود.

ولم تشأ اسبانيا الكاثوليكية التي طردت من أراضيها العرب المسلمين شرّ طردة أن تتخلف عن موكب المتنازعين عن هوية وجنسية ابن خلدون. ففي "التعريف" هو يشير إلى أن جده عثمان نزل بقرمونة بالأندلس في رهْط من قومه من حضرموت. وبعدها انتقل إلى اشبيلية وقد أقام ابن خلدون في بلاد الأندلس بضع سنواتن وفيها ارتبط بعلاقة صداقة متينة مع الشاعر والوزير ابن الخطيب. كما أنه قام بمهمة السفير المفاوض لدى سلك قشتالة.

مع ذلك، يتوجب علينا أن نقول بإن ابن خلدون لم يعد فقط ابنا لهذا البلد أو ذاك، بل أصبح بفضل "مقدمته" ملكا للتراث الإنساني بقطع النظر عن اختلاف الثقافات واللغات والأجناس. ويعني هذا أن طروحاته وأفكاره لا تعترف بالحدود الجغرافية، بل هي تنطلق غير مبالية بهذه الحدود لتكتسح العالم برمته. وذاك مصير كل مفكر عبقري مثل ابن خلدون.