مع تزايد اعداد المهاجرين العرب والمسلمين في اوروبا والولايات المتحدة، يتصاعد الجدل حول سبل اندماجهم في المجتمعات التي هاجروا اليها. وتواجه عملية اندماج المهاجرين في المجتمعات الغربية مجموعة من المشكلات، من بينها حاجز اللغة واختلاف انظمة التعليم والتوظيف، واختلاف الانظمة السياسية، واختلاف المفاهيم الدينية والثقافية. والمشكلة ان هذه الاختلافات قد تتصاعد لتصل الى درجة الاشتباكات والمواجهات.

في غالبية دول الغرب الأوروبي والولايات المتحدة، هناك تشريعات وقوانين لقبول المهاجرين أيا كانت خلفياتهم العرقية او الدينية، ومن أول تلك المتطلبات القانونية الالتحاق ببرامج الاندماج الاجتماعي في الوطن الجديد، وهي برامج مجانية تنفق عليها تلك الدول المضيفة ويدعمها الاتحاد الأوروبي. وتتلخص عموما بمحاضرات دورية يراعى فيها وقت الوافد الجديد، بل ويتم تقديمها حسب لغة هذا المهاجر، ويتم فيها شرح كامل الحقوق التي يستحقها، والواجبات المنوطة به، مع توضيح للبيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذا الوطن الجديد. المشكلة، هي أن غالبية الوافدين من الدول العربية وغير العربية من المسلمين لا يندمجون في هذه المجتمعات، وسرعان ما يبحثون عن تجمعات سكنية متلاصقة تشكل أحياء خاصة بهم، يتكاثرون بها، وبعد سنوات من الهجرة يبدأون بمحاولات فرض قوانينهم "الشرعية وغيرها" في بلدان قبلتهم بلا شروط مسبقة.

الاندماج في مفهوم مؤسسات الهجرة وحكومات البلدان الأوروبية يعني ثلاث قضايا رئيسية: هي تعلّم لغة البلد المضيف، والعمل، واحترام القوانين والأنظمة. وهذا ما تؤكده يوميا عشرات المقالات والنقاشات التي تدور في مواقع التواصل الاجتماعي والصحف وبرامج الاندماج، أي لا أحد يتحدث عن أمور الدين والعقيدة وضمير الإنسان. قوانين وثقافة الغرب تركز على الإنسان بغض النظر عن الدين والجنس واللون، حيث تعتبر هذه من خصوصيات الإنسان، ولا أحد يتحدث عن شكل اللباس أو الحجاب. وهذه الأمور يحميها القانون في كل الدول العلمانية، وهناك آلاف المسلمين يعيشون في الغرب منذ عشرات السنين، ويعملون ويدفعون الضرائب، ويتحملون مسؤولياتهم، ولهم حقوقهم ككل المواطنين دون تمييز، ويحترمون القوانين ويتمتعون بسلوك حضاري، وقد وصل الكثير منهم لمراكز القرار دون أن يطالبهم احد بأن يتخلّوا عن دينهم أو ثقافتهم أو عاداتهم، حيث تتمتع هذه المجتمعات بتنوّع كبير في الثقافة والأديان ضمن إطار مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان، حيث يستطيع الإنسان أن يختار ما يناسب قناعاته كما يستطيع تبديلها وقت ما يشاء، وهذا محمي بالقانون بشرط ألا يضر بالمجتمع أو يهدد كيانه.

يقول الباحث "الدكتور مصطفى عبد العزيز مرسي" في كتابه القيم بعنوان "قضايا المهاجرين العرب في أوروبا"، من منشورات مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي 2010: "المهاجرين العرب يجدون أنفسهم في أحوال كثيرة في حيرة بين التمسك بمقومات الهوية الأصلية ومتطلبات المواطنة الجديدة في مجتمعات الهجرة، وبين ممارسة حياتهم الخاصة، وفقاً لقيمهم وأعرافهم وتقاليدهم، ومتطلبات أشكال اندماجاهم الاجتماعية والسياسية والثقافية وضروراتها في المجتمعات الجديدة. كما يعاني المهاجرون في المراحل الأولى من تعدد الأطراف المحليين والإقليميين الذين يتجاذبونهم، والذي يسعى بعضهم لتأطيرهم في بوتقات مذهبية أو عقائدية أو تنظيمية لا ترتضي منهم سواها، وهذا يؤدي إلى مزيد من النزاعات والصراعات بين المهاجرين أنفسهم في بلدان المهجر".

المؤسف حقا، ان يصف قسم كبير من اللاجئين "العرب والمسلمون" المجتمعات الغربية التي احتضنتهم بالفسق والفجور والانحلال ومختلف الصفات الأخرى التي تستهجن وتحتقر ثقافة وعادات وقوانين الغرب. لا، بل تصل الأمور في بعض الأحيان الى حد الرغبة بأن تصبح المجتمعات الغربية مثلهم، أي على "المضيف" أن يرضخ لثقافة "الضيف" ويعترف بتفوق قيمه ومبادئه على قيمهم ومبادئهم. يؤمن هؤلاء بعقيدة تتمركز حول مبدأ "نحن خير أمة أخرجت للناس، وديننا هو دين الله الحق والأخرون على باطل"، وبأن ما نؤمن ونعمل به من قيم وعادات هو أفضل مما يؤمن ويعمل به الآخرون، وبالتالي عليهم تقديم الطاعة والولاء لنا. هذا الفهم الخاطئ يروج له الدعاة والمرجعيات الدينية المؤدلجة، الذين سيسوا الدين وألغوا جانبه الإنساني والروحي النقي، كونه علاقة سمو وتصعيد روحي خاصة بين الله والفرد. هذا الجانب الذي هو محور أساسي في الدين الإسلامي والأديان السماوية الأخرى تمّ تغييبه، لذا تسمع الكثير المهاجرين المسلمين البسطاء (العرب وغيرهم) يمتدحون اخلاق وسلوك وإنسانية مواطني الدول التي استضافتهم ومنحتهم جنسيتها، لكنهم دوما يضيفون هذه العبارة: "لا ينقصهم غير ان يكونوا مسلمين".

لقد احتكرت تنظيمات الإسلام السياسي في أوروبا منذ عقود تمثيل الدين الإسلامي في الدول الغربية عبر شبكة جمعيات ومنظمات، شاركت الحكومات الأوروبية نفسها، في دعمها وتعزيز نشاطها على أراضيها في إطار قيم التعايش السلمي وحرية المعتقد، إلا أن تلك التنظيمات استثمرت ذلك في اختراق الجاليات المسلمة واستغلالها في تمرير أجنداتها السياسية التي تعادي قيم المجتمعات المستضيفة في الخفاء وتناصرها في العلن. وحتى تضمن الجمعيات الإسلامية السيطرة على توجهات أفراد الجاليات المسلمة، حالت من خلال خطابها المؤدلج للدين الإسلامي دون اندماجهم في المجتمعات الأوروبية التي يقيمون فيها، حيث حرّضتهم عبر مقولات دينية تحثهم على الاستعلاء على المخالف لهم دينيا، الأمر الذي أدّى بهذه الجاليات للعيش في عزلة تامة عن المجتمعات التي تقيم فيها، وبالتالي إحساسها بالاغتراب عن قيم العلمانية الأوروبية.

لن تحل مشاكل المهاجرين المسلمين (العرب وغير العرب) في بلدان المهجر إلا إذا احترم كل مهاجر البلد الذي استقبله (هو وعائلته) وحماهم ووفر لهم حياة كريمة، كي يلقى احتراما متبادلا ممن يتعاملون معه. وعليه أن يدرك أن إساءته للتصرف ستنعكس بشكل سلبي على جميع المهاجرين من محيطه وثقافته، ولن تنعكس عليه وحده.