"عن ابن عبّاس، قال: كنتُ أقرئ عبدَالرحمن بن عوف؛ فقال: شهدتُ أمير المؤمنين اليوم، وقام إليه رجلٌ فقال: إنّي سمعتُ فلانا يقول: لو قد مات أمير المؤمنين لقد بايعت فلانا. قال: فقال أمير المؤمنين: إنّي لقائم العشيّة في الناس فمحذِّرهم هؤلاء الرهط، الذين يريدون أن يغصبوا الناس أمرهم. قال: قلتُ: يا أمير المؤمنين: إنّ الموسم يجمع رِعاع الناس وغوغاءهم، وإنّهم الذين يغلبون على مجلسك، وإنّي لخائف إن قلتَ اليوم مقالة ألا يعوها، ولا يحفظوها، ولا يضعوها على مواضعها، وأن يطيروا بها كلَّ مطيرٍ؛ ولكن أمهل حتى تقدم المدينة، تقدم دار الهجرة، وتخلص بأصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار؛ فتقول ما قلتَ متمكِّنا فيعوا مقالتك، ويضعوها على مواضعها؛ فقال: والله لأقومنّ بها في أول مقام أقومه بالمدينة"...
هذا نصٌّ أورده الطبري في تاريخه (تاريخ الأمم والملوك ج2 ص234) تحت عنوان "حديث السقيفة" وقد ساق أنّ عمر بن الخطاب وفى بوعده؛ فقال في المدينة ما كان ينوي قوله في مكة في موسم الحج، وقد نقل الطبري عن عمر أنّ بيعة أبي بكر كانت فلتةً، وأنّ الله وقى المسلمين شرَّها، كما أشار عمر إلى أنّ عليّا والزبير تخلّفا عن بيعة أبي بكر، كما تخلّف الأنصار قاطبة... كما أورد عمرُ مقولة: أنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش، وهي مقولة استند عليها كثيرٌ ممن تصدّى لقضية الحاكمية في التراث...
قد ينطلي هذا التصور على من عاش في تلك الحقبة التاريخية؛ لكنّه –بكل حال- لا ينسجم مع تأريخنا المعاصر؛ فكونُ الخلافة= السلطة السياسية في قريش أمرٌ يتنافى أو يصطدم مع واقع الإسلام المعاصر الممتد زمانًا ومكانًا؛ فكيف يحكم قرشيٌّ بلادًا إسلامية، مثل: ماليزيا وإندونيسيا؟!
لقد كنّا –في ذلك النص- أمام مفردات سياسية، حاول فيها عمر بن الخطاب أن يبرز مكامن القوة في الدعوة إلى حزبه؛ لكنّ المتأخرين من أهل السنة جعلوا ذلك دِيْنًا؛ بل عقيدة، تهدف لإقصاء فكر الشيعة، وتقوم على رفض أحقيّة عليٍّ بالخلافة؛ بينما كان المشكل السياسي يكمن في كونِ أدواتِ عليٍّ السياسية لم تكن تساعده على أن يكون خليفة= زعيما سياسيا، ويؤيد هذا صنيعُ عليٍّ رضي الله عنه، عندما ولي الخلافة؛ فقلد كان مشدودًا لصورة مثالية نفّرتْ الناس منه، ومن سياسته، وجعلتهم يميلون مع معاوية؛ مصداقا لمقولة: قلوبهم معك، وسيوفهم مع معاوية، الذي أجاد اللعب على فنّ الممكن، وراعى مكوِّنات ومفاهيم المتلقين، والأدوات التي يمكن بها توظيف مفردات القوة (السيوف) وترك القلوب تميل، كما تشاء؛ إذ لا أثر قويا لها في تغيير موازين القوى...
صلاح أبي بكر وعمر الذاتي هو ما أفرز تلك الحقبة الزاهية، التي تفلتت بمجيء عثمان خليفةً؛ إذ هيمن الأمويون على مصادر المال والسياسة، ودفع عثمانُ حياتَه؛ ثمنا لذلك الخلل الذي اعترى مفاصل الدولة... وذاك الصلاح وذلك الانضباط الذي تمتّع به الخليفتان، رغم أهميته، لم يُقِمْ لنا دولة مؤسسات؛ بل بقيت تلك الحقبةُ ومضةً تأريخية مضيئة؛ دون أن تسعفنا بأدوات سياسية تعصمنا من الزلل والشطط، ولهذا وجد معاويةُ الأمرَ والأرضية هشّةً ليّنة، مكَّنته من تدشين دولته، وتوريث سلطته السياسة، التي أصبحت سننا للدول من بعده...
وأخيرا، يجدر بنا التوقف عند وصف عامة الناس بالرعاع والغوغاء، وهي أوصاف وردت في النص الأصلي، الذي أقمنا عليه هذه المقالة، وهو جانب آخر يقابل أصحاب الحل والعقد، التي حفل بها تراثنا على حساب المهمَّشين؛ لكنّ القوانين الوضعية في العالم المتحضِّر كفلت لهؤلاء الرعاع والغوغاء التعبير عن أصواتهم، وجعلتها مؤثرة في انتخاب السلطة السياسية...
تراثُنا جزءٌ من التراث الحضاري البشري؛ لكنّه لا يشكِّل التراث الحضاري البشري كلّه، وهذا ما يجب أن نعيه ونفهمه في حياتنا المعاصرة...