الصين وما أدراك ما الصين. شغلتنا سنوات بدروسها الاقتصادية، وإرثها التاريخي وتنوعها الثقافي والعرقي، وتعدادها السكاني، وإنتاجها الصناعي، وقوتها الناعمة وصبرها على ترامب المجنون. فالأرقام التي تدور حول الصين مذهلة وتسبب نوعا من الصداع. هي مصنع العالم الخيالي من السلع البدائية إلى صناعة الإلكترونيات والمعدات الرقمية. وصاحبة الأحلام البشرية في اختراعاتها الزمنية القياسيّة كبناء الجسور والمباني الكبيرة بأشهر قليلة إلى الاسم السحري (طريق الحرير) العابر للدول والقارات.

الصين هي صين العالم بتاريخها وفلاسفتها ولغاتها وأساطيرها ونهضتها. هي القوة الاقتصادية الثانية بعد الولايات المتحدة. والقوة الأولى في دكتاتوريتها. فقد خرجت من مفهوم عباءة الاشتراكية إلى دولة إمبريالية من نمط جديد بالمعنى الأيديولوجي التقليدي، حيث تقاتل العالم بمخالب الاقتصاد. وتفرض وجودها بأسلوب القوة الناعمة المبتكر من عقل أمريكي، حيث قتلت الصناعة المحلية للدول النامية والفقيرة في عقر دارها بسبب رخص أسعارها وتنوعها ودرجات جودتها. ربما يعترض البعض على تسميتها بالدولة الإمبريالية، لكنها الحقيقة الساطعة كالشمس!

ومثلما للصين وجهها المشرق، فلها وجهها المغربي المحمّل بعلامات الاستفهام. فهي الدولة الديكتاتورية التي تنقصها الشفافية. والبارعة بسرقة براءات الاختراع، وإجبار الشركات الأجنبية على التنازل لصالح المصانع الصينية، وانتقال مصانعها وإنتاجها إلى دول تعتبر كلفة اليد العاملة فيها أرخص من الصين نفسها. كما إنها لم تلتزم بمتطلبات منظمة التجارة العالمية وشروط العولمة في أسواقها، فهي تدخل كل الأسواق بينما تمنع السلع المصنعة في الخارج من دخول أسواقها. وأكثر من ذلك فأنها تسيطر على شركاتها كشركة الاتصال (هواوي) العملاقة بالسلطة والتوجيه، وتمنع الأجانب من التملك على الأراضي الصينية لبناء مصانع أو مجمعات سكنية. إضافة إلى مشكلة الحريات والأقليات، فهناك 170 مليون كاميرا بصرية مراقبة لكي تبقي الأمور تحت السيطرة، وتميّز وجه أي شخص خلال ثوان بمجرد مروره أمام الكاميرا. ولها إعلام شديد المركزية يسوّق لحاكم الصين (تشي جينغ بينغ) من الصباح إلى المساء.

والقصة الصينية لم تنتهي، ولن تنتهي لا بالأفعال ولا بالأقوال. فهي الحدث الصادم للبشرية، وموطن الانبهار والدهشة. منها تنطلق الابتكارات والأزمات والعجائب والمفارقات. يخرج الذكاء الاصطناعي منها مثلما يخرج منها الخفاش الملعون الذي قلب الدنيا بالمقلوب، وجعل الناس تلعن الصين وطعامها رغم أنها تَسْتَمْتِع بتقنياتها وملابسها وعقالها وشماخها العربي بطبعة صينية. وبالرغم من كل مآسي الخفاش الصيني يخرج لنا الإعلامي والبروفسور الفيلسوف طه جزاع بكتابه الجديد الصين: مخالب التنين الناعمة (دار دجلة الأكاديمية –بغداد2020) ليتحدى الآلام الناس ويستفز مشاعرهم من خلال تذكيرهم بالصين، وبعام الكآبة والفقر والبطالة. لكن التذكير هنا معرفة جميلة، وموعظة ورحمة للعباد.

وبشكل عام، الكتاب هو سلسلة مقالات نشرها الكاتب في صحيفة الزمان العراقية. قرأتها بعمق وعلقت على معظمها في حائطه الفيسبوكي. وكنت من أوائل الأصدقاء الذي اقترحت عليه تجميع مقالاته في كتاب. فالكتب والمقالات عن الصين كثيرة معظمها يأخذ الجانب السياسي أو الاقتصادي. بينما كتاب جزاّع له نكهة خاصة، فهو كتاب متنوع في التاريخ والفلسفة والسياسة والأدب ونكهة الرحلات. صحيح أن بعضه هو تجميع لأفكار الآخرين، لكنه موثقا بمصادر علمية، وبمنهج رصين في الرؤية والتحليل والمقارنة والاستنتاج تحاشيا للسردية الإنشائية والسجع الشعبوي التي نراها في صحفنا وكتبنا. هو كتاب العلم والمعرفة المبني على الأفكار العميقة والأسلوب اللغوي العصري الرشيق الذي يناسب جميع القراء على مختلف أذواقهم ومعارفهم وتعليمهم.

وكعادتي في قراءة الكتب المتميزة في زاوية (شهق الناس)، فأنني أحاول تجنب التحليل التفصيلي للكتاب ومناقشته. إنما مهمتي هو إعطاء مفتاح للقارئ للاطلاع على مضمون الكتاب وتوجهاته. أقدم معلومات واستنبط رؤى للقارئ للتفكير والتأمل. فما يثيره الكتاب يستند على مبدأ صراعية الأحداث، وجدلية الوقائع وتناقضاتها. وفكرة التناقض بين العالم والصين تتلخص بأن الصين تنظر للعالم نظرة تعاون وتناغم وسلام وعلاقات ناعمة (الحزام والطريق). وقد لخصها رئيسها (شي جين بينغ) عبر ثلاث حقائق: استعادة الصين لحضارتها وتراثها وقوتها، والتطلع للتعاون الدولي كأساس للتنمية والتقدم والسلام، وبناء التنمية لإنعاش الاقتصاد. بينما نظرة العالم للصين هي نظرة تنافس وصراع واستعلاء وخضوع.ومابين النظرتين المتناقضتين هناك (قوة حادة) تستخدمها الصين لإملاء السلوك وفرضه بالقوة داخليا. بالمقابل هناك سوء فهم للعالم عن الصين بسبب الدعاية السوداء المكثفة من الآخرين.

الصين الصاعدة والديكتاتورية، وموطن الألغاز اَلْمُحَيِّرَة، وصراعاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفلسفة إعادة الإمبراطورية الصينية من جديد، وسر فكرة تشكيل العالم حسب رؤيتها، ورؤية الكتاب العراقيين والعرب والأجانب للحياة الصينية، والأقليات المسلمة في الصين، وما فعله الخفاش الصيني للعالم بنشره الكورونا. كلها موضوعات متنوعة وجدلية قائمة على فكرة الفلسفة الشكيّة. فما يحدث في الصين وصراعاتها لا يمكن تفسيرها بالإيمان الحتمي المطلق (معضلة مانكاوزن الثلاثية)، وإنما بتقديم دليل يثبت صحتها، ويقدم إجابات شافية، لتجنب الإيمان بقشور الأمور وسطحيتها بهدف معرفة عمق المشكلة وجوهرها. وهذا ما فعلة جزاع وهو يتناول هذه الموضوعات المثيرة للجدل.

ومثلما يحرص الكاتب على اختيار الموضوعات ضمن سياق الوحدة التكاملية لها، والتنوع في الأفكار، فأنه حرص أيضا على الاعتماد على فن التشويق في العناوين، واختيار المصطلحات والألفاظ المتأنقة، والأحاسيس المتألقة من أجل أن يثير نفس المتلقي، ويستحثّ مشاعره، ويدفع عنه شبح الملل، ويدفعه إلى الاستجابة، ويبعثه على فعل المطلوب. لذلك نرى عناوينه تتسم بالتهييج والإلهاب والترغيب والتحبيب والحثّ والإثارة: كورونا والأرانب البيض، بليون زوج من الملابس الداخلية، لا شيء أفظع من حقارة أوروبا وأمريكا، ماركس إخصائي أمراض اجتماعية!، (مصنع العالم) يكسب القلوب والجيوب، شيوعية الأفندية، خطر أصفر.. خوف أبيض وغيرها من العناوين.
كنت أتمنى أن يفرد الكاتب موضوعا عن الإعلام الصيني لتكتمل موضوعات الكتاب. فهو مرآة حياة الصين لمن يريد معرفة الحقائق عن الاستبداد وحرية التعبير والرأي، وخريطة سيطرته الدولية، وأخطبوط أذرعه الدعائية بالكلمات والجواسيس. فالدولة الصينية تدعم موازنات 33 محطة إذاعية وتلفزيونية في 14 دولة بشكل سري. وهي حاضرة في دهاليز مؤسسات الإعلام. فالعالم لا يراها إلا من زاوية واحدة، بينما تراه هي من كل الجهات بوضوح! كما كنت أتمنى أن تكون المصادر الأجنبية المعاصرة عن الصين حاضرة في الكتاب بهدف اطلاع القارئ على الاتجاهات المختلفة للأفكار.

بالمختصر، الصين: مخالب التنين الناعمة، كتاب يختصر الصين تاريخا وفلسفة وسياسة وحياة معاصرة. كوكتيل معرفي معتوق بالأزمنة والأمكنة. عميق المعاني، سلسل الأفكار بالمرادفات اللغوية البسيطة المعبرة عن حيويتها وبنائها. كذلك في اختيار الألفاظ، وتأليف الكلام بأسلوب خاص يدمج اللغة العلمية بالكتابة الصحفية محاولا أن يكون له أسلوبه الخاص. وكما قال هوفمان (الأسلوب هو الرجل)، أو كما قال أفلاطون (الأسلوب شبيه بالسمة الشخصية).

وقراءة الكتاب فيه من المتعة المزدوجة: متعة الصين في تاريخها وإرثها الثقافي، وصراعها الجدلي مع الدول والحياة، وسر ابتكارها المدهش، وعقلها المتجدد بالسليكون والذكاء الاصطناعي. ومتعة الكاتب في دهشته الفكرية، ومخالبه الناعمة لجذب القارئ بموضوعاته المتنوعة، ودبلوماسيته في تفسير الأحداث، وأسلوبه الرشيق الناعم بالفلسفة والقصص السياسية والمفارقات والتناقضات وغرائب الخفافيش والكلاب ومآسي الكورونا. هو أشبه بأعاصير تسونامي، لكنها أعاصير من الأفكار التي لا تهدأ من الأمواج الفكرية القوية، والمعلومات اَلثَّرِيَّة التي تفيض على ساحل الحياة بطبعة عربية.
كنكّن هاها بالصينية... شكرا طه باللغة العربية.