يؤسفنا حقاً أن نرى المثقف العراقي اليوم بهذه الوضعية المُتردية والمُتشرذمة التي يعيشها، والموقف المتفرج الذي لا يتمظهر سوى في التحسر على أحوال البلاد والعباد وإبتلاع النطق وكل ما على اللسان ليعيش فقط في(مأمن) و بـ(أمان)!.
المثقف العراقي يعلم تماماً، وقبل الجميع، بأن هذه الوضعية ليست من مصلحته على المدى البعيد حتى وإن ضمِنت له الى أجل تجنب شرور الأقدار و غدور الأنذال من أهل السياسة و وجوه السلطان. أنه يعي بأن الموقف هذا- التفرج والتجنب- غير مُشَرّف له أبداً ولا يعكس تطلعاته أو طموحاته المجتمعية، التي ينبغي العمل من أجلها بل التضحية في سبيلها دون الرهان على من ظَهَرَ فشله الذريع للجميع بل وصل الأمر معه الى إنحدار البلد كله صوب الهاوية تماماً.
المثقف العراقي، للأسف، لم يستطع، قبل كل شيء، أن يجسد هوية عراقية جديدة، مُنعكسة للتركيبة الفسيفسائية للمجتمع، وإن إدعت البعض هذا سرعان ما نجد إختزاله لهذه الهوية فقط في الصورة النمطية التي رسمها البعث في مخيلته، والتي تتمثل في طغيان البعد العربي لها على حساب مكونات أخرى مجتمعية لا ترى ما يمثلها في هذه الهوية - ومن حقها أن تكون كذلك - طالما كان خطاب الهوية هذه، خطاباً إقصائياً، أو على الأقل غير محتويٍ لعناصر أساسية نعلم بأنها لم تُمنح حق الوجود والمشاركة بفعل سيطرة الآيديولوجية الشوفينية التي كانت سائدة في حقبة النظام البعثي البائد(1968-2003م).
المثقف العراقي فشل في إستقطاب نفسه كشريحة إجتماعية متميزة، تقود لنا مسيرة فكرية وثقافية مثمرة في المجتمع وتؤثر على حقل السياسة وعقول الساسة وظاهرة التحزبات السائدة، المفرطة اللاعقلانية والمُتحاربة، التي شتتت المجتمع وفك إرتباط إجزائه ببعضها البعض لحد قتل وتصفية البعض على الأسماء والإنتماء الى مذهب دون آخر أو قومية دون أخرى.
المثقف العراقي أخفق أيضاً في إنتاج ثقافة جديدة وحداثية تجعل المواطن يتمسك بهويته الوطنية العريضة و لايتحصن خلف الإنتماءآت الثانوية وتفضيلها على أي إجتماع وطني حضاري متسامح ومنفتح.
المثقف العراقي، لم يقدر حتى الآن أن يشكل وسطاً مجتمعياً مؤثراً تُراهن القوى الإجتماعية الأخرى على تماسكه وتعاضده وجعله إنموذجاً يحتذى به على مبدأ الإحتكام بالمُثل العليا وتقليد أهل الصفوة في المجتمع وتقاليدهم الفكرية والسلوكية تجاه الإنسان والمجتمع والعالم وكل القيم الأخرى الكفيلة بإرتقاء المجتمعات وتحضرها.
المثقف العراقي لم يستعن بل لم يهتم أصلاً حتى بتجارب المثقفين والنخب المتنورة في الدول المتقدمة ودورهم الرمزي والمعنوي الكبير في بناء الوطن والمواطن وترسيخ القيم الجماعية الجديدة التي تعجز أي أمة على وجه المعمورة أن تنهض بدونها ومن دون القطيعة مع كل ما يسبب لها التقوقع والتخلف إن كان بإسم (الأصالة) أو محاربة (الغزو الثقافي) اللَذين أصبحا أمثلة على عناوين ذرائعية لاترمي اليوم الى شيء ما إلا المزيد من الإنغلاق أمام حركة التاريخ ومساره.
المثقف العراقي لم يعد يتمتع بأي مناعة فكرية أو ثقافية أيضاً تجاه مخططات الأحزاب والمذاهب لإحتواء مواقفهم وأفكارهم وجعلهم مجرد شريحة تابعة مُتبنية لكل ما يفتون و يقولون ويعملون دون أي إعتراض قوي لاتعقبه الخيبة، ولم يعد يقاوم المغريات المادية والمعونية، التي تمنحها الأحزاب والتيارات وترشها لشراء الذِمم وتفريغ البلد من أي أصوات مجتمعية أو تكتلات إجتماعية ترفض التفاعل والقبول بالواقع القائم في البلد، والذي لم يُعد يطيقه أحد حتى المتحزبين والمتمذهبين أنفسهم، اللذين لايمثلون الآن أي دور يُذكر سوى إنتهازية الطاعة للأجنبي وتنفيذ الإملاءآت الخارجية لا غيرها.
المثقف العراقي فشل حتى في بيان أي رغبة حقيقية للمشاركة في مظاهرات القوى الإجتماعية الفاعلة في المجتمع العراقي في السنوات الأخيرة الى الآن، وقيادتها لهذه الإعتراضات الجماعية ضد الوضع القائم، ولم يشكل كتلة موحدة فكرياً وعملياً لتكثيف الضغوط على القوى المتنفذة في البلاد وإرضاخهم لإرادة الشعب ومطالبه المتمثلة في الحد من الفساد والبطالة والعنف المؤسسي والسرقة المنظمة، التي يشهدها البلد منذ حوالي عقدين من الزمن دون حد أو حدود!.
المثقف العراقي لم يقدر أن يلم شمله حتى في المنفى وبلاد الحرية، حيث لا رقابة على القول والفعل والنظيم والدعوة السياسية والفكرية، وإنما ظل مشتتاً ومتشرذماً الى الآن، يُتابع وحسب الأوضاع كبقية الناس العاديين، الذين لا يفقهون الأمور، بينما المثقف، في كل مجتمع، يُعرف تقليدياً وبخطاب فكري وسياسي، على أنه يُشكل دوماً ضمير الأمة والأنسانية، ومُستَوجب عليه إبداء مواقف تُماهي هويته المعنوية ورصيده المجتمعي وتؤثر بها على الوقائع والأحداث أو الشؤون والشجون.
أي أن لايقف هذا الكائن، في النهاية، مكتوفة الأيدي وخالٍ من كل شعور بالمسؤولية الوطنية، أو على الأقل لا يتستر على ما يجري في البلد على أيدي أحزاب وتيارات ومذاهب سياسية ودينية يُدرك تماماً بأنها حطمت العراق ومجتمعه في وضح النهار ودمرت أبسط مقومات النهوض ثانيةً بسبب غيابه هو وقوى أخرى إجتماعية قادرة على أن تواجهها وتحد من غطرستها وسلبها ونهبها المُنَظَّمين لكل خيرات البلد وثرواته.

كاتب وأكايمي من كُردستان العراق