يذهب البعض من الكتل السياسية منذ سنوات الى موضوع استخدام صيغة الأغلبية في اتخاذ القرارات او التشريعات بديلا عن صيغة التوافق بين المكونات الرئيسية في البلاد العراقية، وفي بيئة سياسية غير مكتملة التكوين خاصة في بناء المؤسسة التشريعية التي ما تزال تعمل بنصف هيكلها مع غياب مجلس الاتحاد الذي يعتبر فلتر امان لجميع المكونات، وبغيابه وتعطش الكتل الكبيرة الى تكريس نظام شمولي اتضحت ملامحه بعد اكثر خمسة عشر عاما من اختراق كل مفاصل الدولة العسكرية والأمنية والاقتصادية بالشكل الذي حولها الى نظام اقرب ما يكون الى نظام الحزب الواحد ولكن بصيغة المذهب الواحد، وهذا يتجلى واضحا فيما عُرف في السنوات الأخيرة بالدولة العميقة التي تسيطر على مقاليد الحكم بشكل متشدد بمساندة اذرع عسكرية تكاد تكون بديلا للمؤسسة العسكرية والأمنية بل تتفوق عليها في العدة والعدد، اما من خلال هياكلها او من خلال اذرعها الممتدة في جسد المؤسسة العسكرية والأمنية، وهكذا يمكن لنا أن ندرك هذا التنظيم الشمولي للنظام السياسي الذي يحاول قادته فرض نظام الأغلبية لتعزيز او شرعنة هذا الشكل من الدكتاتورية.

في العراق حاولت الأنظمة إضافة اكسسوارات زينة شكلية على هيكل ادارتها بصناعة أدوات زينة سياسية على شكل افراد او أحزاب كارتونية يفترض انها من مكونات أخرى غير الحاكمة لكنها سرعان ما انكشفت ولم تنطلي على الأهالي حتى انهيار نظام صدام حسين الدكتاتوري وسقوط تلك الصيغة الأحادية التي حكمت البلاد ما يقرب من ثمانين عاما منذ تأسيس الدولة العراقية، حيث بدأت مرحلة جديدة لوضع أسس نظام يعتمد في تكوينه على مشاركة كل المكونات القومية والدينية والمذهبية والعرقية، بما يؤسس تدريجيا لدولة المواطنة في ظل دستور يضمن حقوق كل المكونات ويحقق بقاء البلاد اتحادا اختياريا بين كل هذه الأطراف في نظام فيدرالي يمنحها حقوقها في الإدارة الذاتية وبتوافق اتخاذ القرار الاتحادي بما لا يدع مجالا لأي انفراد أو تفرد على حساب الآخرين، ولأجل ذلك كانت التوافقية التي ميزت طبيعة الحكم طيلة السنوات المنصرمة وحافظت على وحدة البلاد وعدم تجزئتها.
ان طبيعة تكوين الدولة العراقية وشكل نظامها السياسي منذ تأسيسها وما تخللها من صراعات وحروب وإقصاء وظلم كارثي كبير ترك آثارا بالغة، لا يسمح بأي شكل من الأشكال قيام أغلبية تتفرد بالحكم مرة أخرى، سواء كانت سياسية أو قومية أو دينية مذهبية، حتى وان كانت من الناحية العددية تتفوق أو تتجاوز المكونات الأخرى، فالعراق يتكون وواقع حاله منذ تأسيسه من الناحية الدينية بأكثرية عددية مسلمة منقسمة الى مذهبين رئيسيين، يعقبها الديانة المسيحية فالايزيدية والصابئة واليهود، ينتمون في أصولهم وقومياتهم إلى أكثرية عربية وكوردية تشاركهما مكونات أخرى من الآشوريين والتركمان والكلدان والسريان والأرمن، حيث أظهرت السنوات الماضية ونتائج الانتخابات العامة الأخيرة ثلاث اصطفافات واضحة جدا تتكثف فيها ثلاث تكتلات مذهبية وقومية هي: الكتلة الشيعية والكتلة الكوردستانية والكتلة السنية، التي تمثل مكونات العراق الرئيسية، ورغم وجود تداخلات في المكونات الثلاث كوجود كوادر شيعية في الكتلة السنية والكوردستانية، أو الكوردية والتركمانية في الكتلة الشيعية وكذا الحال في الكتلة الكوردستانية الذي تضم مكونات غير كوردية مثل الاشوريين والتركمان والكلدان والسريان والعرب، إلا أن واقع الحال وما يجري من تجاذبات وصراعات يمثل حقيقة المكونات الرئيسية للبلاد التي تتوزع جغرافيا ايضا حول العاصمة بغداد، في الجنوب والفرات الأوسط، والغرب وبعض من الشمال والشرق، والشمال مع بعض من الغرب والشرق لتكون اقاليما جغرافية وتاريخية متناسقة ومتجانسة، تتوحد جميعها حول عاصمة تاريخية لا تقبل ثقافتها الا أن تكون ملكا لكل المكونات والأديان والمذاهب، تلك هي بغداد التي تتقاسم فيها اليوم المكونات الرئيسية والأخرى مواقعها الاتحادية في السلطات الثلاث بطواقم مترهلة ومتداخلة بغياب إعلان الفيدراليتين الاخريتين في كل من الجنوب والفرات الأوسط والغرب مع التلكؤ في حل مسألة المناطق المتداخلة بين إقليم كوردستان ومحافظات نينوى وديالى وصلاح الدين.
وعودة سريعة الى بدايات تكوين الدولة العراقية بعد اتفاقية سايكس بيكو وتحديدا انطباعات اول ملك تم تكليفه بقيادة هذه الدولة وبناء هياكلها، حيث أوجز الملك الهاشمي فيصل الأول انطباعه بما يلي:
" إن البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، ذلك هو الوحدة الفكرية والملّية والدينية، فهي والحالة هذه، مبعثرة القوى، مقسمة على بعضها، يحتاج ساستها أن يكونوا حكماء مدبرين، وفي عين الوقت، أقوياء مادة ومعنى، غير مجلوبين لحسّيات أو أغراض شخصية، أو طائفية، أو متطرفة، يداومون على سياسة العدل، والموازنة، والقوة معا، وعلى جانب كبير من الاحترام لتقاليد الأهالي، لا ينقادون إلى تأثرات رجعية، أو إلى أفكار متطرفة، تستوجب الرد."*
وللأسف الشديد لم يكن حكام البلاد حكماء الى الدرجة التي يدركوا حقيقة مكونات العراق لكي يؤسسوا بموجبها دولتهم العتيدة، فاستولت مجموعة لكي تهمش الأخرى وتلغي وجودها أو تستعبدها طيلة عقود سوداء من التكوين الخطأ، دفعت البلاد والعباد الى الدمار والخراب في حروب عبثية في الداخل والخارج، حتى تعرضت البلاد الى الاحتلال الكامل طيلة ما يقرب من عقد من السنين، وهي ما تزال تأن تحت جراح الاحتراب غير المعلن والاختلاف الشديد حد التنازع بين مكوناتها الأساسية، التي ما زالت بعض النخب السياسية فيها تتغنى بعراق مركزي تنصهر فيه كل مكوناته لصالح ما يسمى بالأغلبية السياسية تارة والقومية تارة أخرى والمذهبية تارة ثالثة، وفي كل هذه الادعاءات يكون اتجاهها واحد بالتأكيد هو غير العراق الديمقراطي الاتحادي التعددي!؟
خلاصة القول لا اغلبية حاكمة في العراق لأن رديفها الدكتاتورية واقصاء الشركاء الاخرين، ولا بديل للنظام الفيدرالي او الكونفدرالي لأعادة بناء دولة عصرية تقوم على أساس المواطنة الصحيحة والشراكة الحقيقية.
ــــــــــــــــ
*عن الجزء الثالث من تاريخ الوزارات لعبد الرزاق الحسني، من ص 300 وما بعد.

[email protected]