كشف القبض على النائب السابق علاء حسانين وبحوزته 201 قطعة أثرية وبعده رجل الأعمال المصري حسن راتب، عن قضية بالغة الأهمية والخطورة وهي الاتجار بالحضارة المصرية، والتي أثارتها مرارا وتكرارا أقلام الغيورين على وطنهم، وشأنى مثلهم في ذلك.. فقد أثرتُ هذه القضية منذ عشرة أعوام هنا في «إيلاف» تحت عنوان ( الآثار المصرية.. سرقات بأوامر «رسمية» وتهريب «عرض مستمر»)، وأشرت فيها إلى مدى خطورة هذه القضية بما تمثله من تهديد لإرثنا الثقافي، وذكرت بكل وضوح أسماء لصوص وتجار الآثار.. وأستكمل هنا اليوم القضية مشيرا إلي كيف بدأت جذور تلك القضية والولع بالآثار المصرية وسرقتها إلى خارج البلاد.. فقد أراد ملوك مصر أن يكرموا في مماتهم بكل ما يملكون من حولهم بخلاف تحنيط أجسادهم لإيمانهم بالعودة ولكن هذه الرغبة وذلك الثراء كانا حافزا لسرقة ونهب القبور، حتى لجأ المصريون القدماء إلى أن يتولى إقامة القبور الملكية أسرى الحرب ثم قتلهم بعد الانتهاء منعا لإرشاد اللصوص، ومع ذلك لم تحم هذه الفكرة قبورهم من النهب والسرقة، حيث أفشى كثير من الأسرى أسرار المقابر قبل إعدامهم. وتردد في كثير من المراجع التاريخية أن مقابر المصريين القدماء وصلت إلى 40 ألفا، وبالتالي كان من الصعب حمايتها جميعا.
وكان الأكثر رواجا في عالم لصوص القبور هو سرقة المومياوات، وذلك للأساطير التي دارت حول سحرها.. وقدر «صامويل بيرش» الأمين السابق للقسم الشرقى بالمتحف البريطانى عدد المومياوات بـ420 مليون مومياء، خلال 2700 سنة، من التاريخ المصرى.. وعلماء آخرون قالوا إن الحضارة المصرية امتدت 4700 عام ولذلك فإن عدد المومياوات يصل إلى 731 مليونا.. وهو عدد ضخم لا تملك مصر حاليا في متاحفها حتى ١٠٪؜ من هذا العدد.
وفي العصور الوسطى، كانت المومياوات تسحق وتباع كدواء وتستعمل مثل الأسبرين وتضاف إليها زيوت النباتات لعلاج الالتهاب مما جعل اللصوص يقتلون بعضهم ويتم بيعهم كأنهم مومياوات، حتى حذرت دائرة المعارف البريطانية الناس في أوروبا وأمريكا سنة 1771 من شراء مسحوق هذه المومياوات لأن ما يباع هو جثمان المجرمين لا المصريين القدماء، وعندما تقدم العلم في القرن التاسع عشر زالت فكرة العلاج من مسحوق المومياوات ، ليحل محلها استعمالها كسماد لخصوبة التربة واستخدامها في صناعة الورقة، والتفاخر بصناعة الورق من أكفان المومياوات، حتى نشرت الصحف الأمريكية عام 1856 إعلانات لمصانع تتفاخر بأن ورقها صنع من أكفان المومياوات المصرية.
ونتيجة للإقبال عليها اعتبرت المومياوات أول الصادرات المصرية في ذلك الوقت، حيث كانت تصدر 10 آلاف طن سنويا سنة 1872 حسبما ذكر "ماك كون" في كتابه "مصر كما هي" .

أما عن أسوأ عهود السرقة والنهب، فكانت أوائل القرن الثامن عشر ، واللصوص جميعا وقتئذ كانوا من الأوروبيين، فقد كان أول هؤلاء اللصوص في فترة حك المماليك لمصر هو أسقف بريطانى اسمه «ريتشارد بوكوك»، زار مصر عام 1737 وعندما عرف بنهبه للقبور الملكية تصدى له عدد كبير من المصريين وهددوه بالقتل، فرحل إلى بلاده.
ولم يتوقف الشغف الأوروبي بالآثار المصرية، ففي عهد محمد علي عينت بريطانيا "سولت" قنصلا عاما لها في مصر عام 1815 ، وعندما وطأت قدماه القاهرة ، كان أول تفكيره كيف يستخرج كنوز مصر المدفونة من آثار ومومياوات، وفي اليوم التالي قام بالبدء في الحفر وجمع كميات ضخمة من الآثار وأرسلها إلى المتحف البريطاني بمساعدة ثلاثة رجال هم: (جيوفاني بلزوني إيطالي الجنسية وبيركهارت سويسري وجيوفاني كافيجليا بحار بريطاني كان مسئولا عن النقل)، وكان "سولت" يرسل الآثار عن طريق سفينة خاصة من الإسكندرية إلى لندن.. وإحدى السفن غرقت بكمية كبيرة في البحر المتوسط، فأرسل لهم "سولت" رسالة يقول "الآثار المصرية كثيرة"، وحكى "بلزوني" كل جرائم سرقته في كتابه "حكاية"، وأوضح في إحدى الحكايات الحزينة لنقل مسلة قائلاً إنه توقع أن سرعة تيار النيل سوف تساعده في نقل إحدى المسلات إلى الإسكندرية فألقى بها فغرقت .
ولم يكن قنصل بريطانيا في مصر فقط السارق الوحيد، فشاركه فيما بعد تقسيم الغنيمة قنصل فرنسا في مصر وقنصل السويد وقنصل الدنمارك وغيرهم الكثير من القناصل، فلم يكن يتردد أي قنصل في مصر في النهب والسرقة بأسرع وقت، حيث استطاع جيوفاني انسطاسي جمع كمية كبيرة من آثار سقارة والأقصر وباع صفقة ضخمة للحكومة الهولندية عام 1828، ومجموعتين للمتحف البريطاني 1839 ومجموعة لفرنسا سنة 1857.
كما اعترف كارل ريتشارد لسبيوس عالم الآثار الألماني في 12 مجلدا عن رحلاته في كشف وسرقة الآثار من مصر ،قائلا إنه أرسل إلى ألمانيا 15 ألف قطعة من الآثار المصرية كما أرسل صفقة كبيرة إلى المتحف البريطاني (أكبر تاجر بأوروبا في ذلك الوقت كان يشتري الآثار من اللصوص ).
وحتى نكون صادقين، لم تكن السرقة هي الوسيلة الوحيدة لتملك الآثار المصرية بالخارج، فقد عرفت مصر إهدارا آخر للآثار يزيد من نزيفها، وهو الإهداء، حيث أهدى محمد على مسلة إلى ملك بريطانيا «جورج الرابع» عام 1821، ورحبت مجلة «التايمز» بوصولها فى مقال طويل، كما أهدى مسلة أخرى إلى فرنسا عام 1831، وتوجد الآن فى ميدان «الكونكورد» فى باريس، وكل مسلة وزنها نحو مائتى طن، وفي 1891 عندما اكتشفت مقبرة قرب الدير البحري مملوءة بالمومياوات والتوابيت اقترح مورجان مدير مصلحة الآثار وقتئذ توزيع نحو مائة من آثار المقبرة على متاحف اوروبا وأمريكا مجاناً.. والغريب أن الحكومة المصرية وافقت على الاقتراح، وذلك بخلاف القانون الذي كان يسمح للمكتشف بتملك نصف الآثار المكتشفة أو المكررة فيما بعد .. وللحديث بقية .