عندما طلب الاستاذ من المختار دريد لحام في مسرحية ”غربة"، ان لا يستبد بالسلطة، ويعطي الشعب حقه في اختيار شخص آخر يحظى بزعامة شرعية، وافقه المختار على مضض، وراح يسأل افراد قريته المتكاسلين في المقهى من يريد منهم ان يكون زعيما بدلا عنه؟ فرفع الجميع أيديهم، كل منهم يريد ان يكون هو الزعيم. التفت المختار الى الاستاذ وقال له: "شفت بعينك؟ قرية كلها زعماء، من وين بدي جبلك شعب؟".
إنه حال ديموقراطيتنا في العالم العربي. كل واحد فينا يريد ان يكون زعيما، او ان يصنع له زعيما على مقاسه، دون ان يعرف ما هي السلطة، ولا ما تكون الديموقراطية.
كان هناك ربيع عربي، تحول الى شتاء طويل. فهل فشلت ثورات الحرية على أرضنا؟
سأجيب بلا.. لأنه لم تكن هناك حرية في الاساس كي تنجح او تفشل. وإذا جاز القول ان الحرية هي تاج الديموقراطية، فسأقول ان العرب لم يعرفوا ديموقراطية حقيقية في تاريخهم، فعل أي اساس نحكم؟ حديثا فقط، كانت هناك محاولات واعدة، وفشلت.
ربما كان لبنان، في مرحلة ما، حالة استثنائية. لكن حاله اليوم يختصر العالم العربي كله.
بلد واحد وعدة زعماء. طوائفه أكثر من سكانه. وهو فوق ذلك منكوب بالفقر والفساد.
من المسؤول: السياسي الفاسد، ام الشعب المهزوم؟
كلاهما يتشارك الخطأ.
استطيع ان اكتب عشر مقالات، بل ألف مقال، عن فساد الزعيم والسلطة في العالم العربي. لكن ماذا عن الشعب؟ هل هو بريء ام شريك في مأساته؟
يقول المثل الصيني، ان تضيء شمعة افضل من أن تلعن الظلام. وقد حسمنا اختيارنا... اللعنات اسهل بكثير من اضاءة شمعة.
الثري يلعن الزعيم، ومثله الفقير والاسكافي، والمثقفون بدورهم في موكب اللعنات يسيرون.
تبرئة السلطة من مآسينا هو قول غير منصف. لكن تبرئة الشعب العربي نفسه غير منصف بالمثل.
سأجتهد في حصر اسباب فشل الديموقراطية في البلاد العربية، في ثلاثة عوامل:
اولا، تردي الاوضاع الاقتصادية. فالمعدة الخاوية تهزم الحرية. الظلم ايا كانت درجته لا يحرك الشعوب، بل الجوع هو ما يحركها. مع هذا، فعندما تحركنا، تعبنا سريعا لأن الكسل سمة فينا. أضف الى ذلك الوهن والخوف.
تعودنا على أن ننظر الى الدولة على انها ابونا وأمنا وعمنا وخالتنا ايضا. هي المسؤولة عن إطعامنا وتعلمينا وحتى اخذنا الى اسرتنا ورواية قصة قبل النوم. نحن لا نعمل ولا ننتج، لكن نلعن بشكل جيد.
سيقول اكثرنا إن دولنا فاسدة. الشعب ايضا فاسد. كسله فساد. تبذيره فساد. وصمته على الفساد هو فساد مكتمل الحضور.
حتى في دول الخليج الغنية، يتنمر اكثرنا على فاتورة كهرباء مرتفعة الثمن، دون ان يفكر بأن اغلب اجهزته المنزلية تعمل ليل نهار لدار خاوية أغلب وقتها. نتنمر على قلة الدخل، وفي بيت أكثرنا خادمتان وسائق يخدمون اربعة اشخاص فقط. تعطي الدولة ارضا وقرضا لكل مواطن، على ان يسدده في موعده مع اغراءات واعفاءات إن التزم بالسداد. لا احد يسدد. لا يهمه ان أثر ذلك على مواطن آخر ينتظر دوره أم لا، لكنه لا يسدد. ناقشه في الحلال والحرام، في المسموح والممنوع، في الممكن واللا ممكن.. سيسمعك ولن يسدد. ما ذنب الدولة هنا؟
إن كان الفقر جريمة، فكلنا شركاء فيها. تماما كما هو الفساد، كلنا شركاء فيه.
ثانيا، الدين الاعوج. ولا اقصد عوج الدين ذاته، بل ذاك الذي في نفوسنا. فلما كنا شعوبا شديدة الإيمان بدين اختصرناه في صلاة وصوم، فقد ترعرنا على العوج في التفسير والسلوك. ملتصقون نحن بالدين في أحدايثنا، بنفس قدر التصاقنا بالكفر في أفعالنا. سنحدثك عن قال الله وقال الرسول، ثم نفعل ما يخالف الله والرسول. ليس مهما ما يقول الدين، بل المهم ما يقوله امام المسجد وزعيم الطائفة. لا عجب ان اصبحت العنصرية والطائفية ماؤنا وطعامنا. نتلذذ باكتشاف جزئية صغيرة لا تتفق ومعتقدنا، فنقذفها كحجر على رأس الآخر. نعم، العلمانية هي الحل. لكنها حل مستحيل في مجتمع يتغذى على عداء نفسه باسم الله والدين. لحمنا معجون بكراهيتنا لبعضنا، فمن صنع ذلك، الحاكم ام نحن؟
اوروبا عنصرية، وكذلك نحن. عنصرية الغرب دينية، لكن عنصريتنا اكثر كرما واتساعا، إنها دينية وعرقية وشعبوية وحزبية.. ولجميعها ثوب دين موشى بالذهب، تحته شيخ ينبع الضوء من رأسه، وكأنه قطار مهيب.
ثالثا، "الفردية" في الشخصية العربية. واقصد بها النزعة إلى تقديس الفرد. فقد نشأنا وكل ما حولنا واحد لا ثاني له. الله واحد. الرسول واحد. القرآن واحد. الخليفة واحد. لذلك لا نعرف سوى الحاكم الواحد، اليوم وغدا وبعد ألف عام. لن تجد شيئا واحدا يربط الديموقراطية بالعرب رغم تعدد دولهم. الأسوأ من ذلك هو ارتباطنا، بثقة وعزيمة مخلصة، بماض سلطوي نتمنى لو عاد!!! ماض ما عرفنا عنه سوى خليفة لا ينازعه في القرار أحد، ولا قانون يردعه أو دستور. اعطوا الشاعر، اعطوا الجارية، اقطعوا رأس هذا وابقوا على ذاك. ماضينا هو الحاكم المطلق الذي نعاديه حاضرا، ونتغنى على امجاد عهده الذي راح. عاجزون نحن عن استيعاب مفهوم التعدد في السلطة، او المشاركة في القرار. وإن حدث واصبح بعضنا جزء من هذه السطلة، فلن يلبث ان يصبح طاغيا بنفسه، ليس لعلة فيه، بل لأن من حوله يقدس الطغيان الفردي الذي يُمارس عليه.
انا لا أحب السياسة في العالم العربي، ولا أعتقدها تحبني. لكني وللإنصاف اقول ليست السلطة وحدها الملامة فيما نحن عليه.
الظلم فعل اختياري، من ارتضاه استحقه. ونحن من ظلم انفسنا قبل ان يظلمنا الحاكم. ولست اشك ان بعضنا قد اعتاد هذا الظلم حتى بات به يتلذذ.
هل يعني ذلك ان الديموقراطية ستفشل ابدا في أرضنا؟
سأقول نعم. على الأقل بمفهومها الغربي. كيف ستكون لنا ديموقراطية ونحن متخمون بالطائفية؟ عاشقون للفردية؟ لن نستطيع ان نعكس مجرى نهر يسير هكذا منذ الآف السنين.
وتسليما لحقيقة كهذه، لا أجد ما يناسبنا حاضرا ومستقبلا إلا ما قال ارسطو: افضل نظام حكم، هو الملك المستنير. وسأضيف الى ذلك القوي الأمين. لكن حتى يكون الحاكم مستنيرا، على الشعب ان يكون كذلك ايضا.
إلقاء اللوم على الآخر، والسلطة تحديدا، هو ابسط ما نرمم به ثقوب حياتنا. أما نحن فضحايا، نستحق الشفقة. قول كهذا يرضينا، ويزيح عنا المسؤولية، وكأننا اطفال ابرياء لا حول لنا ولا قوة.
سأختم قائلا بلا تردد، إن كان الربيع العربي قد رفع شعار "الشعب يريد اسقاط النظام"، فمن حق النظام اليوم أن يطالب هو بتغيير الشعب!
التعليقات