لم يزل المشهد "السوبر" سريالي للطائرة العسكرية الأمريكية الضخمة وهي تهم بالإقلاع من مطار كابل، ومن حولها وعليها يتجمع الأفغان، كمنظر من أحد "الأفلام المصرية" في ثمانينيات القرن المنصرم، لاكتظاظ الناس في أحد الأوتوبيسات لدرجة انحشار بعضهم بين داخل وخارج الأوتوبيس يكاد أن يقع على الأرض، مع فارق التشبيه ومنظر من سقطوا من علو شاهق من الطائرة الأمريكية بعد إقلاعها ممن تعلقوا على خارج جوانبها!

وأنا أتابع هذا المنظر، وتسارع احداث "سقوط كابل" في قبضة طالبان، قفز إلى ذهني تماهي اللحظة الأفغانية مع تلك الفيتنامية، يوم "سقوط سايغون" في قبضة الثوار الفيتناميين، وانتهاء الحرب الأمريكية الفيتنامية، بانتصار هو شي منه وأيدلوجيته على أقوى دولة في العالم.. التجربتان الفيتنامية والأفغانية تتشابهان في أن كلا منهما تنطلق من أيدلوجية، وكلتا المقاومتان استمرتا لما يقارب 20 عاما.. ومن هذا التماهي بين التجربتين تطرح اليوم هذه التساؤلات للمشهد الأفغاني:

  • الحزب الشيوعي في فيتنام هزم أمريكا وأصبح لاحقًا من أهم الشركاء السياسيين والتجاريين لأمريكا، وحركة طالبان هزمت أمريكا، فهل ستصبح بعد حين من أقوى شركاء امريكا؟
  • هل سيسعى نظام طالبان ببرغماتية سياسية للدخول في تحالفات مع قوى أخرى ترى في أفغانستان فرصة اقتصادية واستراتيجية؟
  • هل ستكون أفغانستان في ظل نظام طالبان "دولة طبيعية" بالشكل المتعارف عليه في العلاقات الدولية؟
  • هل طالبان 2021 نفسها طالبان قبل 20 سنة؟ هل كانت طالبان نسخة 1 إرهابية، وطالبان نسخة 2 منقحة؟

تساؤلات مشروعة للقادم من المشهد الأفغاني.. ولكن من منطلق جيوسياسي، الفرصة الأفغانية أعظم من أن تترك دون أن تغتنمها قوى أخرى تدرك أهميتها، وأعني تحديدا هنا الصين، لاعتبارات اقتصادية واستراتيجية مهمة جدا للصين.

الاعتبار الصيني الأول هو ضمان حصول الصين على موضع قدم في مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي الضخم والاستراتيجي الذي ينطلق من تركمنستان وصولا إلى أفغانستان. وان يكون للصين نصيب في خط سير تدفق الغاز عبر هذا المشروع هو بلا شك هدف صيني استراتيجي مهم.

والاعتبار الصيني الثاني الذي أراه أهم من الأول وهو، أن الصين تعتبر أكبر مستهلك في العالم لمادة "الليثيوم" التي تدخل خاصة في صناعات بطاريات السيارات بأنواعها، وتدخل أيضا في الصناعات التقنية الدقيقة، التي تنتجها الصين، وتحتاج إلى موادها الخام بصورة مستمرة وكبيرة. وتكفي الإشارة بأن أفغانستان تمتلك مخزونا من مادة "الليثيوم" يعد الأكبر في العالم، وبقيمة تقديرية تبلغ أكثر من تريليون دولار.

لن أطيل في مقالي، وأتشعب في التحليل، واكتفي قبل الختام بأن أؤكد على أن أمريكا قطعا ليست غافلة عن الطموح الصيني في أفغانستان، وبأن التخادم الأمريكي الصيني، كقوى لم يبلغ بعد مثل ذلك الأمريكي البريطاني في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتبادل تموضع القوى في منطقتنا بخروج بريطانيا، وحلول أمريكا في مكانها. لذا مهما صرحت إدارة بايدن بانتهاء التواجد الأمريكي في أفغانستان، فإن هذا التواجد سيعود بشكل أو بآخر لكبح جموح الطموح الصيني، كغاية أمريكية استراتيجية من بين عدة غايات أخرى. ناهيك من أن الأيدلوجية الصينية وجدت توأمها ومريدها في النظام الفيتنامي في أعقاب انتهاء الحرب الأمريكية الفيتنامية، وهو قطعا ما لن تجده كمدخل ترحيب في أفغانستان في ظل وجود نظام طالبان، إلا كما أسلفت في إحدى تساؤلاتي أعلاه، من اتخاذ طالبان للبراغماتية السياسية في علاقاته الدولية ومن ضمنها مع الصين.

ختاما، القصة الأمريكية الصينية على مسرح الشؤون الدولية.. تشبه إلى حد ما حلقة طويلة من حلقات المسلسل الكارتوني الأشهر "توم وجيري".. مهما بلغت فيها جرأة "جيري" أمام ومن وراء "توم".. سيبقى "توم" القط، و"جيري" الفأر.. وفهمك عزيزي القارئ فمن هو "توم"؟، ومن هو "جيري"؟.. يكفي!