لطالما سعى رؤساء الحكومات العراقية للعب دور الوسيط بين دول الجوار، لكن باءت كل تلك المحاولات بالفشل، لعدة أسباب لعل أبرزها التسرع والاندفاع بفعل الضغوط من أحد الأطراف، وعدم قراءة الواقع السياسي في المنطقة بعين المراقب المحترف، فلم تنتهي مساعيهم بالفشل فقط، بل كسبوا خصومات وورطوا أنفسهم وبلدهم في أزمات هم في غنى عنها، لو اكتفوا بدور المتفرج كأضعف الايمان.

وللانصاف ينبغي الإقرار بوجود نوايا حسنة نابعة من حسن النية في تقريب وجهات نظر الخصوم، كما هو الحال مع رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، لكنه يشترك مع بقية الرؤساء الذين سبقوه في خوضهم مجالاً أكبر منهم فباتوا فيه حيارى للخروج منه محافظين على مياه وجوهم دون إراقة.

السبب في هذا الفشل الذي تدواله كل رؤساء الحكومات العراقية وتداولهم هو غياب المستشار الناصح المحترف ذي الخبرة العميقة في قضايا المنطقة وقراءة تقلباتها.

فلو وُجد هذا الناصح ربما لن يجد أذنا تصغي لنصائحه.

لقد مرت أخبار الوساطات التي قام بها اولئك الرؤساء للتقريب بين الجانبين الإيراني والسعودي، تلك الوساطات التي تتسرب أخبارها حتى قبل انطلاقها، مع تاكيدات أنها سرية، فتكشف قبل فشلها.

ترى ما السبب الذي أفشل كل تلك الجهود العراقية للتوسط بين طهران والرياض؟

لعل أي متابع لديه سبب مقنع لذلك الفشل، منها هو انحياز الوسيط العراقي للجانب الإيراني، فيسبقه الفشل قبل وصلوه الى الرياض، ومنها أيضاً أن العلاقة الوثيقة بين واشنطن والرياض، فلن يحرج الحليف حليفه في قمة سباق عض الأصابع بين طهران وواشنطن، وللتذكير أن غالبية المساعي العراقي للوساطة بين الرياض وطهران تنشط في الوقت الذي يشهد الخلاف الإيراني الأميركي تصعيدأ وضغطاً على طهران.

لكن لو سلمنا بقرب الوسطاء العراقيين من إيران، فما الذي يجعل القادة الكورد لا يبادرون أو يقبلون بدور الوسيط بين طهران والرياض، مع نجاعة العلاقة الكوردية والسعودية ومثلها مع طهران؟

السبب في ذلك يعود للحكمة السياسية الكوردية التي يفكر القادة الكورد فيها ألف مرة ويفعلون مرة واحدة فقط. فلكل خطوة حسابتها في هذا المنطقة المزروعة بالألغام السياسية في كل كيلو متر مربع فيها.

وقد قرأ قادة الإقليم المنطقة الخطرة بين السعودية وإيران وشاهدوا أكداس الملفات المفخخة التي تنفجر بوجه أي وسيط يلمسها.

وضمن هذا الحكمة نجح رئيس إقليم كوردستان في التقريب بين الخصمين اللدودين الامارات العربية المتحدة وتركيا، بعد وصلت الأمور بينهما في السنوات الماضية حد الاتهام بالتدخل في الشؤون الداخلية بشكل سافر والدفع لإحداث انقلاب.

لقد قرأ السيد نيجيرفان بارزاني المنطقة بين الخصمين الذين حافظ على منطقة وسطى بينهما، فقيادة أبو ظبي تكن لأربيل احتراماً ودعماً واعجابا بتقارب الأفكار بينهما في العمران السياسي والجغرافي حد تشبيه زوار الإقليم أربيل بدبي. وبذات المسافة حافظت أربيل على علاقة جيدة مع أنقرة ولم تنجر خلف حماقات بعض المسلحين الكورد لجر أربيل للتصادم مع أنقرة وهو ما فشل، وجنب الدماء الكوردية في تركيا وسوريا نزفا جديداً، ولعل ما جرى في قنديل وقبله في كوباني من اشتراك مقاتلي البيشمركة في سحب فتيل الموت من أهلها خير دليل على حكمة القيادة الكوردية.

ولم تكون جهود رئيس إقليم كوردستان وليدة الشهر الماضي أو مطلع الشهر الجاري التي تكللت بزيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد أنقرة ولقائه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد أعوام من القطيعة في العلاقات التركية الإماراتية، بل استغرقت وقتاً أطول من ذلك بكثير، حيث تطبخ الوصفات السياسية على نار هادئة جداً.

وعلى الرغم من نجاح المساعي الكوردية في التقريب بين أبو ظبي وأنقرة إلا أن أربيل لم تتباهى بذلك أو تصدعنا بها، مثلما فعل إعلام ساسة بغداد مع كل مساع فاشلة مسبقاً.

ربما للمكان دور في ذلك، فبغداد المزدحمة بالضغوط السياسية والأمنية وازدحام السلاح المنفلت، تختلف عن أربيل الهادئة المنشغلة بالعمران والـتأني في أتخاذ أي خطوة تحسباً لأي فشل ستكون عقباته أليمة. هنا تبرز الحكمة والحنكة السياسية التي انحجبت في بغداد وتجلت في أربيل.