عمر الإنسان أطوار وأطوار، لا مجرد أيام..
قد يحيا الإنسان طويلا وهو في طور لا يبرحه، أو في أطوار افتراضية تفرضها المراحل لا خيار له فيها!
لا مفر من طور الطفولة..
كلنا نحياه، ثم طور التشكلات، وهو طور يتشكل في كل منا حسب معطيات عاشها أحاطت به، وجَرَتْ جيناتها في دمه، ثم طور الاستنتاج، وهو طور يكتشف فيه الإنسان خيارات فضلى، وما كل إنسان يستفيد من هذا الطور، إذ أنّ بعضنا أو الغالبية يمر عليه مرور الكرام.
الطور الأهم طور النضج، وهو الطور الذي يصنع فيه الإنسان نهجه الذي يحيا به، ويكتشف فيه حقائق نفسه والأشياء، ويصحح به أخطاء ماضيه، ويغنم به راحة باله ومستقبله.
هو طور لا يدركه إلا من خصه الله بالوعي .. لا من خصه الله بالعمر الطويل، أو التجارب الكثيرة.. طور يحظى به من حفّه الله بأيادٍ تكتنفه بالدعوات، وقلوب تغمره بالحب.
كثير من الوعي يضمن بإذن الله كثيراً من الصواب، وكثير من الحب يضمن كثيراً الطمأنينة.
في هذا الطور يعلم الإنسان ما لم يكن يعلم، ويضحك على ما كان يبكيه، ويبكي على ما كان يضحكه، ويفهم نفسه والحياة والناس أكثر من ذي قبل.
شخصيا..أزعم أني بلغت هذا الطور لا لأني تفردت عن غيري،بل لأني استفدتُ من رؤى الذين سبقوني إليه،وقالوا لي افتح عينيك،سيعبر بك الطور الأهم،فتشبث به،وامض معه.
وها قد فعلت،وها أنذا أقارن بين ما كنت عليه من قبل ومن بعد
حينما ألتفت للوراء أجدُ رائحة أخطائي تُزكم أنفي لكنني وضعتها فنارًا
لتنير لي الطريق من جديد ..

قبل طور النضج كنت أحرم نفسي الكثير وأعطي الكثير،وأثق بالكثير وأعفو عن كثير،أخطئُ عن عمد وأصيب صدفة، يغرني المظهر وأزهد في الجوهر
والآن أصبحت أعطي نفسي الكثير وأعطيهم،وأثق بالجدير وأعفو عن الكفء،وأجتنب الخطأ وأختار الصواب، ويعجبني المظهر ويفتنني الجوهر.
ما زلت أتذكر تلك اللحظات التي آثرتُ فيها الصمت عوضًا عن الكلام، وقدمتُ فيها المروءة لمن بادر بالخسّة، وشرّعتُ أبواب الوفاء في وجوه من اعتادوا الغدر والخيانة، ودفنتُ في داخل الحشا أكوامًا من الوجع والمرارة بوجهٍ باسم، وقلبٍ كسير.
ليس عجزًا وإنّما خيارًا لا بدّ منه لأنه كان الصّواب
أتذكر كل لحظة عفوٍ بسطتها في حين كان الله قد أكرمني بالقوة.
أتذكر كل ذرة حِلمٍ بذراها فيّ أمّي و أبي في حين كانت تتملكني فورة الشباب.
أتذكر الأناة عوضًا عن العجلة، واللين عوضًا عن الشدة، واليسر عوضًا عن العسر، والرأفة عوضًا عن القسوة، والصبر عوضًا عن الجزع، والحِلم عوضًا عن الصفاقة.
أقف اليوم بعد هذا العمر ممتنًّا لكل لحظةٍ نضج عشتُها مقدِّمًا فيها الفضائل بتوفيقٍ من الله، ودعواتٍ تهطل كالغيث، ولكن نحو السماء من أبي وأمي وعائلتي والمحبّين من حولي …
وإذا الفتى بلغ الثلاثينَ استوى
بالوعي لا يكبو ولا يتنكّبُ

والأربعونَ بدايةُ النضج الذي
يجني به ثمرَ النجاحِ مجرِّبُ

والمُقْبِلاتُ من السنينَ سعادةٌ
ما بَعْدَ مَشرِقِها المزغردِ مَغرِبُ

قدِّمْ عطاءَ الخيرِ واجتنبِ الأذى
وسيستبدُّ بكَ النعيمُ الأرحبُ