في محيطنا العربي والإسلامي كثيرا ما يساء فهم معايير الحرية والديمقراطية والمدنية وكل ماهو جديد ونافع لتطوير الانسان وتحسين نظام حياتنا السياسية والاجتماعية وزيادة ارتقائها لسبب بسيط جدا هو اننا نعتمد على نمط سياسي سلطوي يتحكّم فينا؛ ومن طباعنا اننا لا نحبّ التجديد وفرمتة أفكارنا لتقديم عطاء أفضل وفق المعايير الجديدة والنظم الحديثة نظرا لرسوخ القناعات السلفية القديمة في عقولنا بحيث تكلست وصلدت في العقول وصار من الصعب إزالتها.

لنأخذ مثلا بسيطا في فهم الحرية الشخصية عندنا؛ نحن نفهم الحرية في أعرافنا القاصرة ان تشتم هذا وتلعن ذاك وتهدد من يختلف معك وقد تدبّر له مكيدة وتوقعه في مهلكة، وبعد ان يقذع لسانك شتماً ولعناً تقود سيارتك عكس نظام السير ولا تأبه لإشارات المرور وتُوقف أرتال السيارات لتمرّ انت وحدك بعنجهية وانتفاخ ما دمت صرتَ مسؤولا كبيرا.

الحرية وفق رؤانا القاصرة والبذيئة ان تتحرش بالنساء في الشارع والمقهى وتتمادى في إظهار رجولتك وصلفك وتخدش الحياء انصياعا لرغباتك ونزواتك الحيوانية المتوحشة المتعطشة للجنس الآخر وتمارس وقاحتك دون ان تخجل.

الحرية عندنا هي انفلات وفوضى وتحقيق رغبات مكبوتة نتيجة عهود الدكتاتورية والأنظمة الواحدة وإطلاق النوازع والرغبات دون تقدير مشاعر الآخرين، هي حرية: "الانا" النرجسية لأظفر بها وحدي وليأت بعدها الطوفان الفوضوي وكسر أعمدة النظم والقوانين الوضعية وغير الوضعية للإطاحة بها.

وقديما قال الفيلسوف سقراط متهكّما: الحرية تعني انك تعيش في غابة.

ففي مجتمع مثل مجتمعنا غلب عليه الجهل وانعدمت فيه روح الإيثار وبرزت مكانها نزعة الأثرة والاستحواذ على حساب حقوق الآخرين بغياب الوعي الجمعي ودون اي اعتبار لرغبات الآخرين.

مما يؤسف اننا نشوه الحرية تشويها بشعا؛ تلك الهبة العظيمة التي تعتقنا من الاستعباد حتى تحوّلت لدينا تلك النعمة الى نقمة وهل أكثر تشويقا في ان يكون الإنسان حرا لكننا نحسبها شرا بسبب أفعالنا غير اللائقة وتصرفاتنا الغبية وعدم فهمنا للضوابط التي ترافق ممارسة الحرية؟!

من يفهم الحرية على انها انفلات وفوضى يسهل علينا ان نسميه حيوان غاب لا يفهم سوى إشباع أنانيته ونرجسيته وليبقى الآخرون ضحية لممارساته الخارجة عن إطار الأعراف والتقاليد والشذوذ عن الذوق الاجتماعي، فلا احد في هذه الدنيا يصف الحرية ويعتبرها شراً سوى من غرق في مستنقع الخطيئة وبقي يتلذذ بمياهها الملوثة ويستأنس بميكروبها وجراثيمها وأدرانها الكثيرة.

وكل من يستخدم الحرية على انها انفلات فوضوي يفتقد الى الضوابط الخلقية وفي مكامن نفسه النزعة السادية لتعذيب الاخرين وإثارة القلاقل ونشر الإزعاج والسعي الى تسقيط الغير وانتهاك النظم والقوانين العامة بسبب فشلٍ طاغٍ في نفسه كي يطيح بالغير ويثلم نجاحهم، هذا الفشل غائر في أعماقه ويعمل جاهدا على بعث الانحطاط الداخلي في دواخله ليكون معيارا عاما يتسم به الغير مثلما يتسم به هو ذلك الشخص الكاره للنظام، ويهمه ان يشيع العبث والنهلستية ونشرها في اوسع مساحة ومن هنا تكون الحرية مرادفة للفوضى وتقع في مهاوي الخطيئة والسلوك غير السوي مما يهدم أسس المجتمع وتتزعزع المسؤولية، ففي فوضى المجتمعات فان المنتصر الوحيد هم العابثون وذوو النوايا القذرة والخارجون عن القانون والسفلة والمخربون وهادمو أسس وأركان المجتمع كليا؛ فالحرية الحقيقية ترتبط ارتباطا وثيقا بالمسؤولية واحترام خيارات الجميع ورغباتهم غير الضارة بالأفراد باعتبار ان الناس كل الناس متساوون في الكرامة والحقوق يولدون ويعيشون الحياة أحرارا.

لا زلت اؤكد ان غالبية المجتمعات المتخلفة وغير المتعلمة حضاريا لا تحسن ان تمارس الحرية بمعناها الراقي السليم، انها تلك النبتة الجميلة اليانعة تريد ترابا وسمادا عضويا لا شوائب فيه وماءً رقراقا صافيا من معين التحضّر وخالياً من الجهالة ولهذا السبب فشل محيطنا في رعايتها وإنباتها وانزلق الحال الى الفوضى والانفلات الأعمى بحيث صارت الحرية عندنا وبالاً طالما امتدت أيدينا بكامل طولها وخدشت من جاورَنا وتحرّشت بالآخرين ممن يشاركنا محيطنا ولم نراعِ غيرنا في احترام قناعاته ومعتقداته ورؤاه في الحياة وهنا لا بد من قوانين رادعة تصل الى حد القساوة والشدّة وأحيانا حتى الحزم المفرط حتى يتعلم المجتمع الجاهل معنى الحرية الحقيقي وبذلك نخفف تدريجيا من وطأة القانون الصارم ريثما يدرك المجتمع هدف الحرية وجدواها.

ففي زمن الحرية المنفلتة وخوفا من تبعاتها المزرية وسوءاتها تكثر حالات الانطواء نحو القبلية واللجوء الى الأعراف العشائرية والاستنجاد بالقبيلة ظنّا منها انها حمى وظلٌّ ظليلٌ، كما تكثر حالات النزوع الطائفي والمذهبي بحيث تتفاقم الانحرافات بشكل معاكس لما يريده النظام المتحضر فتتورّم المشاكل سرطانياً وتظهر الدعوات علانية الى الانفصال في الأقاليم والتقسيمات الكونفدرالية المشوهة على اسس مذهبية ودينية وعرقية مما يهدد استقرار البلاد والانحراف عن الوطنية وتمزيق النسيج الوطني الواحد الى خرق بالية مقطعة الأوصال.

كم من المفاهيم الراقية نسيء استخدامها ومنها هذه الهبة السامية التي ما ان تلد في بيئتنا نقوم بتشويهها ونلطخ وجهها بالفوضى ونهلهل فستانها الزاهي بالتمزيق والتلويث حتى تتبدى لنا شكلا قبّحناه بأيدينا وتكاد تعرى وتكون انفلاتا لا معنى له سوى انها فقدت معاييرها وضوابطها؛ لذا كان لزاما علينا ان نحمي الحرية من مخاطر الانفلات التي يمارسه الجهّال والمخطئون طالما ان الحرية نشأت لأجل تحسين حياة الإنسان وليس للإساءة الى هذه الحياة ومن اجل استقرار المجتمع وأفراده لا من اجل اضطرابه وكثرة القلاقل والمنازعات فيه.

فالحرية تريد من يفهمها ويرعاها لتنمو ثمرتها يانعة طازجة وتلك اليد الراعية لا بد ان تمتلك دراية ومران وقوة عضلية وعقلية وحنكة ويتمثل ذلك بدولة حازمة ذات سطوة على كل جاهل وعابث ومسيء حتى يتقوّم ويدرك معنى وأهمية الحرية السليمة له ولأقرانه في الوسط الاجتماعي، اما الدولة الضعيفة الواهنة فلن تستطيع مسك زمام الحرية غير المنضبطة ما دامت قوانينها معطلة ولا تثير الذعر لمن يسعى للسير عكس تيار الحرية الشخصية التي تحترم خصوصية الملأ وتقف عند حدها فيما لو أعاقت او سببت الأذى للآخرين ولا ننسى ابدا ما قيل ان امتداد يدك قد يتوقف اذا سبب خدشا او ملامسة مؤذية لأجساد ووجوه الغير، فالحرية الشخصية لو تعدّت حدودها وأساءت للآخرين سميت بلاءً ونقمة طالما هي لا تتجزأ ولا تقتصر على شريحة معينة من الناس وحرمان الشرائح الأخرى من ممارستها.

إنّ إساءة استخدام الحريّة الشخصية يعدّ من أكبر الأسباب على انتشار الفوضى والفساد المجتمعي والتدهور الحضاري وتعميق التخلف والانفلات السلوكي لو تم تدوير دفّتها في غير طريقها الاصوب.

كما ان غياب الضوابط المادية والمعنوية للحريات يجعل من ممارسة الحريّة أمراً يشبه الهرج والمرج وفقدان الاتزان في الوسط المجتمعي، فيكون البقاء للأقوى والحرية الغالبة هي حرية صاحب القوة والنّفوذ والأجندات المريضة، وتنتفي هذه الصّفة عن عامّة النّاس. فإذا أعطى شخصٌ لنفسه الحق أن يُخالف قوانين السَّير مثلاً لأنه حرّ فلن نتوقع شيئاً غير الكثير من الحوادث المرورية وكيف يمكن قيادة سيارة ذات مقود أيمن لنظام مروري يعتمد القيادة بمقود أيسر؟!

ولو قرَّر شخصٌ متهتك وعابث -- لأنّه حرّ -- أن يضرب ما شاء من النّاس ويبتزّ هذا وذاك ويعيث فسادا ويسفك دماء من يلقيه، فتصبح لدينا أنهار دماء لا تنتهي، لأنّ المضروب والمتألم والضحية والمسلوب الحق يكون أيضاً حرّاُ وله حق الرّد ومجابهة أندادهِ بدل الصاع صاعين.

فلنتعلم يقيناً راسخاً ان الحرية تضيق بك وتنكفئ اذا خدشت الآخرين وأساءت للغير، وليست تعطي أكلها وتثمر ثماراً طيبة على معاناة من تتعايش معهم، وبئس الإنسان الحر اذا لم يتحسس ولا يراعي مشاعر من يشاركه الحياة في الوسط الاجتماعي وكيف لحرية حقيقية ان يمرح في ظلالها نفرٌ ويتعذب نفر آخر من سوء استخدام البعض ممن يريد لنفسه الاستمتاع بمباهجها ويحرم غيره من التلذذ بحلاوتها ومذاقها الممتع.

[email protected]