تكاد الأزمة الناشبة حول مرشح رئاسة الجمهورية للدورة القادمة أن تودي بالعملية السياسية برمتها في كردستان، وهي أزمة سوف تلقي بالتأكيد بظلال سوداء على مجمل العملية السياسية في العراق. لأن الصراع حولها يدور بين حزبين رئيسيين يحكمان إقليم كردستان ويتشاركان معا بتمثيل الكرد ببغداد، وبذلك هو صراع سوف ينسحب بآثاره المدمرة على العراق عموما لأنه سيخل بالتوازنات السياسية القائمة.
على الرغم من أن العرف السياسي جرى خلال الأعوام الماضية على تخصيص هذا المنصب للمكون الكردي، ومن ضمنه أن يكون من حصة الإتحاد الوطني على إعتبار أن رئاسة الإقليم ورئاسة الحكومة بإقليم كردستان هما بيد الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، ورغم أن هناك إتفاقا إستراتيجيا بين الحزبين الكرديين لتقاسم السلطة في كردستان وبغداد على سبيل الحفاظ على التوازن السياسي، وكان هذا الإتفاق ساريا المفعول في زمن وجود الرئيس الراحل جلال طالباني حين تولى رئاسة جمهورية العراق مقابل تسليم رئاسة الإقليم للسيد مسعود البارزاني، بل وظل الإتفاق نافذا رغم رحيل طالباني حين تم ترشيح الدكتور فؤاد معصوم لولايتين رئاسيتين.
ولكن غياب الرئيس طالباني عن المشهد السياسي أثار مطامع البارزاني في الإستحواذ الكامل على السلطة في كردستان والتطلع الى تنصيب نفسه مرجعا أساسيا للشعب الكردي في التعامل مع بغداد، لذلك حين جاء وقت إنتخاب رئيس الجمهورية في عام 2018 كان البارزاني الذي يرى نفسه المرجع الأعلى للكرد في العراق، عارض ترشيح برهم صالح للمنصب ضاربا بذلك عرض الحائط بالإتفاقات الإستراتيجية وتقاسم السلطة من خلال التقدم بمرشحه للمنصب وهو الدكتور فؤاد حسين مدير مكتبه السابق. ولكن بسبب تداعيات مغامرته غير المحسوبة بإجراء الإستفتاء للإنفصال عن العراق ولسوء علاقاته مع الشيعة أدى ذلك الى هزيمة قاسية لمرشحه في تلك الإنتخابات. وهنا أضمر البارزاني حقدا دفينا ضد برهم والإتحاد الوطني عموما.
ومما ساعد البارزاني على إنفراده بالسلطة المطلقة في كردستان هو الضعف الكبير الذي أصاب الإتحاد الوطني بعد رحيل طالباني ومن ثم عقد المؤتمر الرابع للحزب وظهور عدد من القيادات الجديدة الأقل خبرة سياسية من النخبة السابقة، ناهيك عن الأحداث المؤسفة التي وقعت في الثامن من تموز الماضي بتشتيت صفوف قيادة الإتحاد الوطني وما خلفته من تداعيات خطيرة بالوضع الداخلي للحزب.
منذ البدء أعلنت قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني معارضتها لإعادة ترشيح برهم صالح للمنصب، وكانت هناك رسائل وتلميحات بعدم رضا البارزاني على ترشيحه لولاية ثانية، ولكن يبدو أن قيادة الإتحاد لم تستوعب مضامين تلك الرسائل الواضحة الصادرة من عدد من المسؤولين في حزب البارزاني رغم أن تلك الرسائل كانت واضحة تماما، بل والحق يقال أن هذا الحزب طرح حلولا بديلة لعدة مرات بضرورة ترشيح شخصيتين من الإتحاد الوطني للمنصب ليتم إختيار احداهما. وكان ذلك البديل بمثابة الموافقة الضمنية من حزب البارزاني بإبقاء المنصب بيد الإتحاد الوطني بشرط إسقاط برهم صالح. وهذه كانت الرسالة الثانية التي لم يفهمها قادة الإتحاد الوطني أيضا، فإستمرت بإصرار عجيب على ترشيح برهم على رغم كل الإعتراضات.
يبدو أن قيادة الإتحاد الوطني لم تتفهم التغييرات الدراماتيكية التي حصلت عقب الإنتخابات الأخيرة وكذلك الإتفاقات التي تمخضت عنها، وبالأخص الإتفاق الذي عقد بين البارزاني والكتلة الصدرية والمكون السني، فعمليا لم يعد حزب البارزاني يمتلك 31 مقعدا فقط في البرلمان العراقي بل زاد عدد مقاعده وفقا لذلك الإتفاق الى أكثر من 180 مقعدا ولهذا فقد فاز مرشحه لمنصب النائب الثاني لرئيس البرلمان بسهولة ويسر مما أغرى قيادة الحزب الى أن يضع عينه على منصب رئيس الجمهورية أيضا، حيث أنه يضمن حاليا العدد الكافي لتمرير مرشحه وإسقاط منافسيه.
إن العناد الغريب من قبل قيادة الإتحاد الوطني لترشيح برهم لم يعد له أي معنى، فهو أضعف من أن يتمكن من مواجهة مرشح البارزاني، كما أن ضياع هذا المنصب من يد الإتحاد الوطني سيضعفه كثيرا، خصوصا وأنه لا يملك أية سلطة حقيقية في كردستان بسبب وقوع رئاسة الإقليم والحكومة والأغلبية البرلمانية بيد حزب البارزاني، فالموقع الوحيد المتبقي أمام هذا الحزب لتأكيد وجوده على المشهد السياسي هو موقع رئيس الجمهورية، ولذلك لابد أن يعيد الاتحاد الوطني حساباته قبل فوات الأوان، فإذا خرج المنصب من يده فلن يبقى له أي شيء يتفاخر به لا في كردستان ولا على مستوى العراق.
يبدو أن ترشيح السيد هوشيار زيباري لمنافسة برهم صالح هو بمثابة الرسالة الأخيرة الموجهة من البارزاني الى قيادة الاتحاد الوطني، فإما سحب ترشيح برهم وطرح بديل آخر، وإما المضي في ترشيح ممثله للمنصب وهناك 180 مقعدا ضامنا أمامه لإنتزاع المنصب من الإتحاد الوطني.
هناك فرصة وحيدة أمام قيادة الاتحاد الوطني وهي سحب ترشيح برهم وطرح إسم الدكتور لطيف رشيد الذي قدم أوراقه للترشح أيضا. فهو من جانب ينتمي الى الإتحاد الوطني ومحسوب على عائلة طالباني، كما أن لديه خبرة سياسية جيدة من خلال عمله لعقود طويلة بمعية الرئيس طالباني، وله علاقات واسعة بالقيادات الشيعية والسنية من خلال عمله في إطار المعارضة العراقية السابقة، وكذلك عمله في الحكومة العراقية وزيرا للري، بالإضافة الى كل ذلك قد يكون هو أكثر قبولا لدى البارزاني بإعتباره الحل الوسط للمعضلة الحالية. وبذلك يضمن الإتحاد الوطني عدم ضياع المنصب من يده، ويضمن حزب البارزاني تحقيق هدفه بإستبعاد برهم صالح. فلا خيار ثالث والعبرة بما حصل.
التعليقات