التاريخ يقول لنا؛ لا تصدقوا البيانات الأمريكية، وحذلقة العبارات، والتمويه والخداع في أساليب التخاطب والتواصل الدبلوماسي، ولا أناقة الجمل الانتهازية. فالأفعال في الميدان، وثعلبّة الممارسات في الخفاء هي الحكم في صدق النوايا.
يخطأ من يقول لنا بأن طابع السياسة الأمريكية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط والخليج، هي سياسة انتهازية بالنوايا، وغباء بالأفعال، إنما هي استراتيجية مخادعة ثابتة للوصول إلى الهدف؛ تلاعب بالمنطقة بمنطق العواصف التي تقلع الجذور، وتقطيع الأجزاء المترابطة، وتهديم الأساسات المجتمعية، ونشر الفوضى لتهديم الأوطان. بالمختصر سياسة أمنية مدروسة غير قابلة للتغيير والنقاش.
لن أذهب للماضي البعيد، فهناك قصص متراكمة من الإعمال الأمريكية التي يندى لها الجبين، وازدواجية مريضة بالأفعال والممارسات. فالصديق العزيز يصبح في ليلة وضحاها منبوذا لديها، وتتبرأ منه كبراءة الذئب من دم يوسف، وربما تشجع الآخرين على نفيه أو أعدامه. ودول تسرق منها المليارات، لكنها في الملمّات تخفي رأسها في التراب مثل النعام. والقصص لا تنتهي، حيث دس السم بالسمن والمؤامرات السياسية المنّكرة لا تتوقف!
عندما جاء بايدن للحكم، قلت وقتها "الله يستر" لأنني اعرف إن الحزب الديمقراطي مغرم بالإسلام السياسي وصناعة الجماعات " الجهادية" بهدف استخدامهم لإثارة الفوضى وتهديم الأوطان العربية. هو ليس سرا من أسرار الكون والفلك والرياضيات فالأمر واضح وضوح الشمس في شروقها وغروبها. فالغيوم الأمريكية دائمة التواجد في سماء الأوطان؛ غزيرة الأمطار، ليس في توزيع الخير، وأنما بإنزال خلايا الموت والقتل بهدف طمر الأرض بفيروسات القتلة السرطانية.
سأقترب من الحاضر. ولدي من القصص المتوالية الأحداث، والمترابطة جدليا بالمنطق والاستقراء؛ داعش وإيران وطالبان، عجينة متماسكة ومترابطة الأجزاء، وخميرة صناعية صنعت خصيصا للمنطقة بهدف توزيعها بالعدل على طريقة فقه القبائل والطوائف الحاكمة، سواء كانت التقاء المصالح كحالة أيران، أو بفعل فاعل حقيقي كحالة داعش وطالبان.
في بلد المؤسسات كما يقال؟! ألغى بايدن في بداية حكمه قرار سلفة ترامب بجرة قلم باعتبار الحوثية جماعة إرهابية، ليس حبا بهذه الجماعة، أو كما يقال "لأهداف إنسانية" وأنما لجعلها ورقة ضغط للابتزاز المادي، ونخر المدن العربية بالدمار، وإشاعة فوضى القتل، ونشر الطائفية.
وقراءة المشهد بين السطور فأن الإدارة الأمريكية بأمكانها إيقاف الحرب إذا أرادت ذلك في أيام، بدلا من السماح لهذه الصواريخ الحاقدة على الإمارات والسعودية. فلا حاجة للإدارة الأمريكية أن تخفي رأسها بتراب السياسة الانتهازية، وتزويق العبارات المليئة بشظايا النفاق والدسائس، ودبلوماسية الطاولات السرية!
كما أسرع بايدن للتفاوض مع إيران من أجل العودة للاتفاق النووي، ليس حبا بالشعب الإيراني الجائع، إنما لجعل إيران "بعب" لتخويف المنطقة بقدراتها "الخرافية الافتراضية “، وجعلها أداة للتحكم ببوصلة العرب، وخاصة منطقة الخليج. يخطأ من يقول لنا إن إيران في طريقها إلى الزوال أو كسر أذرعها المشاغبة، فهو حلم بعيد المنال على المدى القصير على الأقل. نعم ستكون تحت السيطرة ضمن الصفقات والتفاهمات والمصالح المشتركة، لكنها ستبقى عصا سحرية للولايات المتحدة الأمريكية في جلب الأموال، وعصا غليظة على الآخرين للابتزاز السياسي.
وعندما أقول إيران فأنني أضيف عليها أولادها بالتبني؛ حزب الله، الحوثيون، المليشيات العراقية والسورية، كذلك داعش فرع إيران. وكلها أذرع قوية لها أدوار محددة؛ خطف أنظمة الدول بقوة السلاح والعقيدة والطائفة، ورسم خرائط جديدة لأيران لأنشاء حلم الإمبراطورية الفارسية في القرن الخامس، لجعل "بغداد عاصمتها كما كانت في السابق“، وجعل "كل منطقة الشرق الأوسط إيرانية" ، وفرض الأمر الواقع كقوة إقليمية مهيمنة. وهذه الطموحات لن تتحقق إلا بالحكم الأمريكي وكارته الأخضر وصفارته القوية!
وهناك "داعش" الذي اعترفت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في مذكراتها "أن واشنطن تقف وراء إنشاء تنظيم الدولة الإسلامية"، مثلما أكد ترامب بأن " أوباما مؤسس تنظيم داعش". لذلك قلنا في توقعاتنا في نهاية عام 2020 بأن عصر بايدن وحزبه الديمقراطي سيشهد نشاطا للمنظمات الإرهابية، وتأهيلا جديدا لوجوده. وهذا ما يحدث اليوم في العراق وسوريا، حيث العودة المفاجأة، والحضور الفعال هنا وهناك، بعد استراحة قسرية لمتطلبات "الجهاد"، وترتيب الأوراق من جديد، والعودة إلى كسب الأنصار لتأهليهم للنحر والتدمير.
أما طالبان، فهو فلم هوليودي بامتياز في الحدث والأخراج. هو أشبه بفيلم خيالي جرى في عالم افتراضي، بل هو لعبة تشبه اللعب الإلكترونية الخاصة بالأطفال والشباب. قصة ضحّك عليها المجنون في المستشفيات العقليّة. كما ضحك عليها المخرج الهندي الذي يخرج أفلام المفاجأت الخيالية. قصة جرت في ساعات بعد انسحاب الجيش الأمريكي بطريقة دراماتيكية مثيرة للأعجاب والاستغراب، كما هي مثيرة للضحك.
ستكون طالبان قصة جديدة في قادم الأيام عندما تشتعل المنطقة بنار الإرهاب، وفوضى الأحداث، والأزمات المصطنعة. ستدخل على الخط في المكان المناسب، والزمن المقرر بهدف أشعال نار الفتن الطائفية، وتعكير أجواء الاستقرار. سنرى هناك جبهة لجيوش الإرهاب تتآلف على خلق التوترات المجتمعية، وخلق الفزع عند الدول، والتحرك على رمال الصحراء المتحركة لصنع الأوهام والرعب. أسابيع قادمة سنفاجئ في عودة النحر، وفتح السجون، واحتلال الأرض والمدن، كذلك سنرى الطائرات الأمريكية تتجول لتوزيع الأغذية والسلاح على الإرهاب المتنقل. مثلما رأيناها بالعين المجرّدة في العراق قبل سنوات!
بالمختصر المفيد، استقراء وليس تهويل دعائي، هناك سحابة إرهابية قادمة، تحمل معها أمطارا صناعية تغرق الأوطان بدم الأبناء. بل هناك تجمع إرهابي يعمل بـ "الريموت كنترول" الأمريكي لتحقيق مصالح مشتركة، والبعض الآخر عميل مجّند بالمال والنيات ومصاب بعقّد القتل والتخريب.
هناك خريطة تهديم الأوطان وتقسيمها؛ تدمير المدن العربية الناهضة بالتنمية والمشاريع العملاقة، والصاعدة إلى المستقبل. وهناك مدنا يراد لها المزيد من التنكيل والفوضى لأنها تخاف من حضارتها وثقافتها وعقول أبناءها. فليس هناك أسهل من جعل الأبناء في البلد الواحد يتقاتلون من أجل المذهب والقومية والقبيلة، وجعل الدين حطبا لأشعال الفتن، وتثوير القبائل والمدن بعضها على بعض.
ما أبسط اليوم في ظل الاستبداد والجوع والفساد المزمن، والقهر والتنابز بالألقاب، والقمع الديني والسياسي، وتهالك الاقتصاد وموت القيم، أن تجد مئات من الإرهابيين يهزمون نظما سياسية وجيوشا مدججة بالسلاح الحديث، وننشغل بمقاتلتهم أفرادا وجماعات. ما أقسى الصورة والمشهد للأوطان الحزينة التي تقاتل من أجل خراب بلدانها، والآخر يتفرج علينا من نافذة بيته على بعد الآف الأميال.
اللعبة الأمريكية في المنطقة العربية ما زالت مستمرة في خلط الأوراق، والخداع والتمويه بالكلمات الناعمة والانتهازية؛ "ندين" و"نستنكر" و"نتضامن" و"حلفائنا". فهي الفاعل الخفي المبني للمعلوم في تنشيط الأزمات المتوالية بالصورة والصوت، مثلما هي صاحبة الدواء القادر على تصفير الإرهاب في أيام أو أسابيع.
لم تعد كيمياء السياسة الأميركية تحتاج إلى كولومبوس فضائي أو استراتيجي نابغ ليكشف لنا عن خرائطها السرية في نشر فوضى الدم والنحر، وصناعة المنظمات الإسلامية المتطرفة. كما لم تعد شعوب المنطقة المثخنة بجراح الإرهاب أمامها إلا أن تتضامن بالرؤية مع أحد أبناء أمريكا، وهو الكاتب الساخر "مارك توين" عندما قال بسخرية لاذعة: كان من الرائع اكتشاف أمريكا، ولكن الرائع حقا لو لم يتم استكشافها!
التعليقات