يخطيء من يظن بأن الدكتاتورية تصنعها الشعوب. فلا أعتقد بأن الشعب ومهما كان غارقا في الجهل والتخلف والإنحطاط يقبل أن يكون عبدا لغيره. فطبيعة الانسان الفطرية ترفض الإنصياع والإذلال مهما كان جبروت الحكام والطغاة. فالكثير من الثورات تنشب حين يشعر الإنسان بالظلم والإستعباد على يد الحكام الدكتاتوريين.

قد لا ينتبه الكثيرون الى أن الدكتاتورية ليست جينات كامنة في النفس البشرية إلا فيما ندر، فقد يرث البعض من الدكتاتوريين مثل هذه الجينات من آبائهم أو ممن سبقهم لا سيما في الأنظمة الملكية والإمبراطوريات الوراثية، بل أننا نجد نماذج منها حتى في الجمهوريات التي يورثها الدكتاتور لأولاده، وهذه موضة جديدة الى حد ما وخصوصا في منطقتنا العربية، كما حدث في سوريا، وكاد أن يحدث أيضا في مصر والعراق واليمن لولا سقوط الدكتاتورية فيها.

المهم، علينا أن لا نغفل بهذا المقام دور الآخرين في صنع الدكتاتورية، وخصوصا بعض الإنتهازيين من أصحاب الأقلام المأجورة والإعلاميين الذين يبيعون ضمائرهم وشرفهم من أجل حفنة من الدولارات فيغلبون مصالحهم الشخصية على المصالح العامة، وهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان، تارة تحت مسميات العلماء والفقهاء والكهان الذين يزخر التاريخ البشري بهم، والذين مالوا الى جانب الطغاة وحاولوا إسباغ نوع من القداسة على الحكام المتجبرين تحت شعار "طاعة ولي الأمر".

هذا الدور المشبوه الذي لعبه هؤلاء السابقون، يتجسد في العصر الحالي من خلال وسائل الإعلام التي لاتقل تأثيرا عن دور الأولين من الفقهاء والشعراء والطبالين، بل قد يكون دور الإعلام في هذا العصر أخطر بكثير، حيث يمتد تأثيره الى خارج الإطار المحلي. فنظرية دكتاتورية الطبقة العاملة لم يقتصر تطبيقها على الاتحاد السوفيتي فحسب، بل إنتشر بأرجاء العالم. وكذلك بالنسبة للآيديولوجية النازية الناشئة في ألمانيا الهتلرية والتي لها صدى اليوم في بعض البلدان. حتى صدام حسين نجح أثناء حكمه في إستغلال وسائل الإعلام ليطرح نفسه قائدا للأمة العربية وحارسا لبوابتها الشرقية!. وإنخدع الكثير من شعوب المنطقة بتلك الدعايات الإعلامية التي روجتها وسائل الإعلام المملوكة لذلك النظام. ولعل النخبة المثقفة وتحديدا أصحاب الأقلام، هم الأكثر تأثيرا على الرأي العام في أي بلد كان، لذلك ترى السلطات الدكتاتورية تلهث ورائها لتجنيدها وتسخيرها لخدمة وتمجيد الدكتاتور.

ولا أشك للحظة بأن الدور الذي لعبه الكتاب والفنانين والشعراء في عهد صدام حسين، كان له أكبر الأثر في إبقاء الدكتاتور على السلطة لمدة تزيد عن ثلاثين عاما، فالأغاني والأناشيد والمقالات التي تصور صداما كإله، أو شبه إله كانت تلقى صدى في أوساط الناس، وعليه أستطيع أن اقول أن المسؤولية الكبرى في صنع الدكتاتور بعصرنا الحاضر تقع بلا شك على عاتق هذه النخبة وتحديدا الكتاب المرتزقة. ويمكن التعرف على هذه الشريحة الفاسدة المفسدة من خلال قراءة مقالاتهم، فستجد مع كل مقال مدفوع الأجر يكتبونه، أنهم يستفتحونه بحمد الدكتاتور وإدراج إسمه بالمقال، ثم تجميل وتبجيل أعماله، و يختمونه بالدعوة الى ضرورة أن يستفيد العالم من الفكر النير لهذا الدكتاتور ونقل تجربته الفذة في الحكم الى أرجاء العالم، ولا ينسون طبعا الدعاء بأن يحفظ الله الحاكم ويسدد خطاه ويوفقه لما فيه خير الأمة.

ونحن في كردستان العراق أبتلينا بمثل هذه الأقلام المأجورة وهم معروفون بأسمائهم. فعلى الرغم من أن الشعب الكردي ناضل طوال ثمانية عقود للتخلص من الأنظمة الدكتاتورية التي مارست أبشع جرائم الإبادة الجماعية ضده، تجد هذه الأقلام الرخيصة تدافع عن حكم الدكتاتورية الحزبية في كردستان وتنشر مقالات الثناء والتعظيم للسلطة الحالية التي فشلت بكل المقاييس في إدارة شؤون كردستان، حتى أصبحت بسبب فسادها عاجزة عن دفع رواتب موظفيها.

أعرف البعض من هذه الأقلام المأجورة ليس من خلال كتاباتهم فحسب، بل من خلال السيماء على وجوههم من أثر الركوع والسجود للدكتاتور!، فهؤلاء الذين يدعون الوطنية والحس القومي، بل و يدعي بعضهم الإيمان والتدين ويؤدون الصلوات في وقتها، وقد يتركون لحيتهم ليخادعوا الناس بتقواهم وصلاحهم، في حين أن كتاباتهم المسمومة ليست سوى محاولة لتمجيد الطغاة المتجبرين!.

إن الدكتاتور بطبيعته شخص غبي وأحمق، ولذلك يصدق ما يكتبه هؤلاء عنه وهو يعلم علم اليقين بأن كل ما يكتبونه لا تعدو سوى كتابات مدفوعة الثمن لا تسمن ولا تغني من جوع.