مع إقتراب إنتخاب رئيس الجمهورية من قبل البرلمان العراقي تشتعل الأجواء بين القوى الفائزة في الإنتخابات المبكرة الأخيرة وتتوارد التصريحات حول مرشح المنصب، ويتكرر الحديث حول النصاب القانوني لجلسة البرلمان. ومن بين المناوشات الإعلامية، الحديث عن الثلث المعطل والأغلبية الجاهزة، والكل يدلو بدلوه للمتاجرة بهذا الموضوع، ولا نستبعد وجود صفقات سرية بين الأطراف السياسية لصالح مرشح ما، ففي عراق اليوم أصبح لكل شيء ثمنا!.

قيل والعهدة على الراوي بأن الإنتخابات السابقة لرئيس الجمهورية والتي جرت عام 2018 صرف أحد الأطراف السياسية أكثر من مائة مليون دولار لضمان فوز مرشحه بالمنصب، ولكن رغم ذالك فقد فشل هذا المرشح حتى من الفوز بربع أو ثمن أصوات أعضاء البرلمان فذهبت تلك الملايين الى جيوب بعض السماسرة والمرتزقة والقمارجية، وخرج الطرف ذاك من المولد بلا حمص!.

هذه المرة أتصور بأن ثمن الصفقة قد يزيد كثيرا، فسعر الصفقات بالدولار قد تضاعف في البازار السياسي، والطرف الذي خسر السباق سابقا سيبذل الغالي والثمين من أجل الإستحواذ هذه المرة على المنصب، وأعتقد بأن هذا الإصرار العنيد لا يعدو سوى التحدي والثأر للكرامة وتحطيم المنافس مهما كان الثمن!.

بعد الإنتخابات الأخيرة رأينا إصطفافا جديدا بين القوى الفائزة وتشكل تحالف خارج عن المألوف بين (طرف كردي وكتلة شيعية وأخرى سنية) أدخل البلاد في دهليز مظلم قاتم قد يودي بالعملية السياسية برمتها، خصوصا وأن ذلك الإصطفاف أفرز حالة من الغرور الصبياني لدى أطرافه حتى بدءوا يتحدثون عن حكومة الأغلبية بديلا عن الحلول التوافقية على المناصب الرئيسية في البلاد. ولا أعرف هل أن من يتحدث عن حكومة الأغلبية يعيش في أمريكا أو بريطانيا حتى يقنع العراقيين بمذاهبهم وإنتماءاتهم المختلفة بأن هذه الحكومة ستكون الحل الأنسب للمأزق السياسي في العراق، أم أنه يحاول أن يقلب الطاولة على الجميع بغروره وطيشه؟.

فالعراق منذ سقوط النظام الدكتاتوري إستطاع الصمود أمام الرياح العاتية التي تعصف بالبلاد من خلال التمسك بالتوافق السياسي، وهو الصيغة المثلى للتعايش بين الأطراف السياسية التي لديها كما هائلا من الخلافات الطائفية والدينية والآيديولوجية، هذا ناهيك عن الولاءات المشبوهة لمجمل الأطراف السياسية لقوى إقليمية ودولية وهي بدورها متناحرة فيما بينها وتتصادم مصالحها في العراق.

الجدير بالإشارة الى أن القوى السياسية الفائزة بالانتخابات تحاول فرض نفس هذه الصيغة على مسألة إنتخاب رئيس الجمهورية من خلال العمل على تحقيق نصاب قانوني للمضي في إنتخاب الرئيس. فترى بعض هذه الأطراف يسعى لإستغلال الأغلبية البرلمانية لتمرير مرشح معين ناسيا أو متناسيا بأن هذا المنصب وفقا للدستور يفترض أن يمثل جميع أبناء العراق بمكوناته المختلفة وليس طرفا سياسيا يمتلك الأغلبية. وعليه لا بد أن يكون المرشح للمنصب متوافقا عليه من قبل الجميع وليس من جهة أو طرف واحد، لأن الرئيس المنتخب سيكون بهذه الحالة متحيزا للجانب الذي رشحه، وبذلك سيفقد أهم شروط الدستور الذي حدد أن يكون رئيس الجمهورية ممثلا لجميع العراقيين.

ان منصب رئيس الجمهورية في العراق هو بالأساس منصب بروتوكولي محدود الصلاحيات، ولكنه يرمز الى وحدة وسيادة البلد، وعليه يجب أن يكون المرشح غير منحازا الى جهة سياسية. وبالنسبة لنا كشعب كردي، يجب أن يكون المرشح ممثلا لجميع أبناء الشعب الكردي وليس لحزب معين.

إن صرف عشرات الملاىيين من الدولارات في صفقات مشبوهة من أجل إيصال مرشح حزب السلطة الى رئاسة الجمهورية، يفترض أن تصرف في حل مشكلة الكهرباء في الإقليم وتحسين أحوال المواطنين ودفع رواتب الموظفين في مواعيدها وإفتتاح مدرسة أو مستسفى، وليس صرفها لمجرد تحدي جهة سياسية معينة.

إن الإصرار الغريب على نيل الرئاسة بالنصب والخداع وبتحالفات مشبوهة سيضر بالتعايش السلمي بين الأطراف المحلية في العراق وكردستان، فهذه العملية سوف تنتج صراعات أكثر حدة من قبل، هذا ناهيك عن تداعياتها الخطيرة على تعايش الأطراف المشاركة في حكومة إقليم كردستان، وعليه فإن أنسب حل لهذه المعضلة هو التخلي عن العناد والغرور والتوافق على مرشح واحد يمثل الشعب الكردي بكافة أطرافه. فمن دون ذلك لن يستقر الوضع السياسي الهش أصلا في كردستان وقد يقودنا هذا التحدي المجنون الى ما لا يحمد عقباه.