للماضي رونقٌ فريد، طعمٌ يحمل أصالة الأشياء والأحداث والحكايات… وشريطٌ بلونيه الأبيض والأسود يدغدغ مشاعر الرائي ويبعث على نوستالجيا الزمن الجميل،
الزمن الشاعريّ المثقّف والمسؤول، حيث لا تكنولوجيا تسهّل التواصل ووصول المعلومات وتعوّدُ أهلها على الاتكال والبلادة، بل كل البركة كانت بالحركة والقراءة والبحث والاجتهاد!
يتحرك الفضول والشوق لديّ نحو ذلك الماضي الذي لم أجرّبه بعمقه الجميل النّقيّ …
إذ .. ما وقفتُ على صورة قديمة أو تاريخية أو مقطع مصور لأي فرد أو مجتمع إلا وانتابني ذلك الشعور الغريب اللذيذ!
لا أستطيع وصفه تحديدًا إلا أنّني أحاول أن أقول عنه …
أنّهُ نوعٌ من الشوق يتسلّل إلى قلبي ومخيلتي ويبحر في الصورة متطلعًا إلى معرفة المزيد عنها وعن أهلها، محاولًا استشفاف الأسرار المختبئة خلف زواياها، وكأنّ بيننا ارتباطًا سحريًّا، وشغفًا روحيًّا عابرًا للأزمنة، مع رغبة جامحةٍ وتطلع إلى خوض تجربة حياة هؤلاء بكل تفاصيلها !
ثم يتبادر إلى ذهني صراعهم في الحياة ومعاناتهم وأحلامهم التي رسموها بمخيّلة شفيفة وقد صارت سرابًا أو ربّما واقعاً قد تحقق ولكنهم لم يشهدوا تحققه بعد أن أصبحوا تحت الثرى…
ماذا لو كنت بينهم،أرى هناك النساء اللواتي يخبزن في التنّور ويزرعن ويعملن جنبًا إلى جنب مع أزواجهنّ وأهليهنّ، والشمس تشرق من محيّاهن ومن ضحكتهن.
جمالهنّ متجذّر بجمال الأرض وترابيّتها العذراء،ملامحهن تتشرّب من الطبيعة السمحة،من دون أيدي الحداثة الملوّثة بالـ"بوتوكس"و"الفيلر"وغيرها.
يربّين أولادهن على البركة والعمل والفلاح والصلاح، ولا ينشغلن بهواتفهنّ بل يجدْن متعتهنّ بأحاديث أهل الحيّ وسكّانه، وأقسى عتابهن هو جرّةٌ أو قدرٌ أو قربةُ ماءٍ أعارتها إحدى الجدّات إلى جارتها ولم تردّها لها بعد…
ماذا لو كنت الآن شابًا في العصر العبّاسي، أعشق فتاةً سلبت عقلي وقلبي، وليس لي إلا الشعر كي ألامس شغاف قلبها، أو أن أكتب رسالة وأبعثها لها مع الحمام الزاجل، وأنتظر عدّة أيامٍ وليالٍ حتى تردّ علي، والشوق يخترق كل مسامّاتيْ جسدي وروحي، والانتظار يأكلني و ينهشني ببطء.
ماذا لو كنت أعيش في قرية نائية، لم أكن قد سمعت بعد بالكهرباء، والتكنولوجيا وغيرها، وكلما أردت أن أستحمّ نزلت الى أقرب نهر وغطست فيه كيما أنعش روحي وجسدي!
ماذا لو كنت محاطًا بأصدقاء أنقياء وحقيقيين من العصر القديم، نجلس كل يوم قرب ساحة البلدة من دون هواتف وإلكترونيّات، نتداول الشؤون الثقافية ونتحدّث عن الكتب والشعر والحكايات ونتخيّل معًا العالم بعد عدة قرون!
ماذا لو أردت السفر من مكان إلى مكان، وكان صديقي هو الأندلسي "عباس بن فرناس" الذي اخترع فكرة الطائرة،
ثمّ أشهد حينها صناعته للطائرة الشراعية الخفاقة، فأترك عربتي وألحقه لأعيش هذه التجربة كأوّل مرة!
ماذا بعد كلّ هذه التجربة الخيالية؟ أي حنين سأحمله معي عند عودتي الى واقعي الحالي؟ أم أنني فقط أعيش حنينًا إلى ماضٍ لم أكن يومًا جزءًا منه!
أعود فأسأل: هل كان لهم ذاك الفضول الذي لديّ عندما كانوا يسمعون تاريخ من كان قبلهم أم أنهم كانوا مشغولين ومنهمكين بواقعهم إلى حدّ تجاوز الماضي وأهله؟
أم أن نقل التاريخ مصورًا لتشاهده العين قبل القلب هو المحرك الأساسي لذلك الشعور الغريب ؟
وهو الأمر الذي لم يكن متاحًا لهم من قبل.
هل كانت الصورة الذهنية التي رُسمت في عقولهم عند إنصاتهم للروايات التاريخية القريبة منهم كافيةً لتبعث ذلك الفضول والتطلع إلى العودة عبر الزمن لخوض تجاربهم ؟ أم أن فضولي هذا ترف فرديّ؟!
هل أننا إذا ما عدنا بالزمن الى الوراء، وانتقينا عشوائيًّا رجلًا من العصر الجاهليّ، وأتينا به الى هذا العصر الحالي، سيشعر بالخوف والغربة؟ أم أن الذهول سيؤنسه وسيبحث عن المزيد منه ليحشده في ذاكرته ويخبره أهلَه عند عودته!
لو كان لي القدرة على العودة إليهم لسألتهم حول هذه النقطة، ولحدّثتهم عن عجائب الخيال الذي وصل إليه الإنسان المعاصر…
ولكنني أظنّ أنني سأتحفّظ عن ذكر بعض الأمور لأعيش لذّة الماضي بكلّ حيثيّاتها، من دون أن أسمح للحاضر أن يخرّب عليّ هذا الجنون المحتمل!
لو كنتَ مكاني أيها القارئ، وتعيش الخيال نفسه، فأي عصر ستختار العودة إليه؟
الفكرة وبعض النّص لأحد الأعزّاء :
م . س . ج .. على قلبي وروحي فاستأذنت منه النشر وبعض الإضافات ووافق مشكورًا ..
التعليقات