الإنسان كائن مُنتمٍ بطبعه يُميل للأشياء، والتعلق بالأشخاص والتعصب للعادات والسلوكات... وهو محب ولوع بالتمييز والمفاضلة بين الأشياء، حريص على المماثلة وإظهار أوجه الخلاف بين كل ما يحيط به. وقد وجد الكثيرون في أندية كرة القدم ومدارسها، ثنائيات جديدة أضيفت إلى قائمة الثنائيات المعهودة. فمال هذا البعض إلى هذا النادي، وعشقت البعض الآخر أندية غيره حد الجنون، وتعصبت مجموعة ثالثة إلى فرق كروية أخرى في تنافسية هستيرية، خرجت بها عن آداب الرياضة المحمودة إلى دائرة الشتم الغير أخلاقي الذي ترتكب فيه الحماقات المكلفة ماديا ومعنويا، كالذي حدث مؤخرا في كلاسيكو أسبانيا.
ما ذكرت أعلاه كان مقدمة أحببت أن تكون مدخلا للخوض في خصوصة التعصب الرياضي، الذي أخذ في السنوات الأخيرة حجما كبيرا، فبات مشهودا في شوارعنا بين شبابنا وحتى شيبنا ذكورنا وإناثنا، والذي فاق كل التصورات والتوقعات.
ظاهرة غريبة فعلا تلك التي أصبح يعيشها الشباب العراقي عامة، نقلت عدوى ما تشهده وتعيشه الملاعب الرياضي من شغب ومنافسات بين مشجعي الفرق، إلى البيوت والأسر، وجعلت أكثرية الشباب حتى صغار السن منهم، يتفرقون في حب الأندية الأجنبية وخاصة منها: نادي برشلونة، و"الريال" نادي مدريد، والذي يظهر جليا في الحماسة والتحيز السافر للفرق الأجنبية على حساب الوطنية، بارتدائهم للأقمصة والبدل والقبعات ومناديل العنق التي تحمل أرقام و أسماء مشاهير فرق الريال وبرشلونة ورموزهما الرياضية. حتى أن بعض المقاهي عُرفت بميول روادها لبرشلونة، وأخرى خصصت لأنصار الريال.
فهل يمكن اعتبار ما يحدث ظاهرة صحية، أم هي نوع من الإستيلاب؟؟ أم هي مجرد تعويض عن النقص وتعبير صريح عن الاستياء الرياضي؟ وكيف تمكنت هذه الأندية الأسبانية من تكوين قاعدة جداً عريضة من الأنصار بين المجتمعات العربية في الوقت الذي أصبحت فيه فرقنا وأنديتنا الوطنية لا تحرك سواكن وعواطف هؤلاء الشباب بسبب العجز الكروي والأمكانيات.
قبل الجواب ينبغي النظر إلى هذه الظاهرة بعين السوسيولوجية، لأن الأمر لا يتعلق بتشجيعات رياضية عادية ومعتادة، بل هو بحث مستمر عن فريق/ وطن آخر، بانتماء جديد وهوية أخرى، والذي يمكن تسميته بالحريك الرياضي نحو الاندية الاسبانية أو غيرهما من الفرق الأخرى التي تقدم الفرجة والفرحة، بدل مشاهدة الدوري العراقي او المنتخب الوطني التي أصبحت لا تحرك في الجماهير الرياضية العراقية، وخصوصا الشباب أي تعاطف أو انتماء، كما نلاحظ ذلك بقوة في مدن الأقليم رغم الشغب، حيث نكتشف أن هجاسا بالانتماء إلى زمن/وطن آخر يقدم الفرجة التي تفرض هذا الانتماء والهوية. و بما أن الوطن لا يقدم الحد الأدنى مما هو مطلوب منه، فإن الحريك الرياضي والعنف المضاد الذي يرافقه يظل جوابا محتملا ذاك السؤال وعلى قلق الهوية والانتماء.
على العموم وفي كل الأحوال فهي ظاهرة غير طبيعية لمجتمع فقد بوصلة الانتماء إلى وطنه، ويعبر بها عن فراغ يشكوه، وواقع مأساوي وكساد كروي تعيشه فرقه وأنديتها المحلية والوطنية، ويأمل التمرد عليه وهجر والهروب مما تعرفه من قبح الإخفاقات المتتالية والنتائج هزيلة والمستويات المتواضعة. والتي خبا فيها الحماس وفتر بها كل الذي عرفته الرياضة في سنواتها الزاهية من انتصارات كانت تبعث روح التعاطف والانتماء للفريق الوطنية وتجعل العراقيين يحبون نوادي أحيائهم وفرق مدنهم، ويشجعونها، فلا يقتصرون على حضور المباريات الجماهيرية فقط. بل كانت الحصص التدريبية لفرق الأحياء، تعرف هي أيضا إقبالا جماهيريا منقطع النظير.
طبعا هو إستيلاب ما في ذلك من شك، استيلاب وجد الشاب العراقي الم نفسه مرغما على الإنسياق معه، بعد أن ولى الزمان الجميل الذي كانت فيه الأندية الكروية تعيش والنتافس الجميل من أجل الإبداع والتميز، قبل أن تطغى المصلحة الشخصية على المبادئ والقيم الكروية تاركة، وراءها أندية فارغة من الروح الرياضية، وتفتقد للنكهة والحماس الرياضي، وإلى ابسط تقنيات كرة القدم. ما جعل الشاب العراقي يجد في اسبانيا ما يروي عطشه الكروي ريثما تتحسن الأوضاع الكروية وتعود الى الملاعب ما افتقدته لعدة سنوات من فرجة.. فهل ستعود تلك المرحلة الرياضية أم أننا سنبقى غرباء عن أنديتنا الرياضية ومنتخبنا الوطني؟
التعليقات