ها هو التاسع من مايو، ذكرى "يوم النصر" على النازية عام1945، الذي يحتفل به الروس سنوياً منذ ثمانية عقود، يمضي، وتمضي معه أحلام بوتين بنجاح أهداف غزوه لأوكرانيا، وبدأت تتحول الى كوابيس، وبات شبح الهزيمة يطارده ويُبَدِّد أوهام النصر التي كان يعيشها، ويشعره بأنه مفلس رأس ماله التهديد بإستخدام الأسلحة النووية. فبدل أن يعلن فيه عن نصره العسكري على أوكرانيا، كما كان يأمل، يجد نفسه اليوم أبعد ما يكون عن تحقيق ذلك، ليس فقط لأنه إستخَف بإرادة شعبها في الدفاع عن بلادهم وبدعم الغرب لهم، بل وأيضاً لأن قواته لا تُحارب على جبهة أوكرانيا فحسب، وإنما على جبهة الفساد الداخلي الذي ينخر مؤسستها العسكرية، ويؤثر على قدراتها القتالية. فوفقاً لتقارير موثوقة غالباً ما ينتظر الجنود الروس دون جدوى للحصول على إمدادات الطعام والذخيرة، وتُظهِر مقاطع فيديو عديدة آليات عسكرية ملقاة وسط الطريق، لأن وقودها نَفَد أو عجلاتها تمَزّقت، مما يوحي بأن هذه الآليات لم تُستَعمَل أو تُدام لفترة طويلة من الزمن، ويؤكد بأن الجيش الروسي يعاني مشاكل كبيرة في أبسط التفاصيل، على الرغم من أنه يُعتبر مِن أقوى جيوش العالم، لأن أمواله تذهب الى جيوب الساسة والقادة الفاسدين.

إن الفساد المُمَنهج في الجيش الروسي، هو أحد أبرز أسباب فشل القوات الروسية في تحقيق نجاحات حاسمة في أوكرانيا، فهو يعرقل الخدمات اللوجستية، ما يؤدي إلى ضُعف إمداد وتجهيز الجنود بإحتياجاتهم، وبالتالي يُضعف كفائتهم العسكرية. على سبيل المثال، وَرَدت في أول أيام الغزو تقارير عَن إرسال الجنود الروس إلى أوكرانيا مع وجبات غذائية جافة إنتهت صلاحيتها عام 2015! ووفقًا لمجلة فوربس روسيا، فإن حوالي 90% من الشركات المسؤولة عن إمدادات الجيش الروسي مرتبطة بـ يفغيني بريغوجين، أحد أولغارشية بوتين، الذي يُسَمّى "شيف الكرملين" أو"طباخ بوتين"، لأنه صنع ثروته من خدمات إعداد وتقديم الطعام في تسعينيات القرن العشرين، ثم إنضم إلى الدائرة المقربة من بوتين عام2001 عندما بدأ الأخير بالتردد على مطعمه العائم الفاخر "نيو آيلاند" في سانت بطرسبرغ. وهو راعي مجموعة فاغنر للمرتزقة التي نشطت خلال السنوات الثمان الماضية في أوكرانيا وسوريا ودول أخرى وإتُهِمَت بإرتكاب جرائم حرب، وهو صاحب مافيا تتلاعب بمناقصات الدولة لصالحه. فبينما يجني بريغوجين مليارات الروبلات لتقديم الطعام للجنود الروس، ذكرت وسائل إعلام روسية أن جودة الوجبات التي يقدمها أسوأ مما هي عليه في السجون، فالقطع صغيرة بشكل غير معقول وبعضها ملوث بالسالمونيلا. هناك أيضاً مؤشرات بعدم توزيع الحصص الغذائية على القوات في أوكرانيا، وتداولها بدلاً من ذلك في السوق السوداء، وبينما يتضَوّر الجنود الروس جوعاً، ويقتحمون المنازل الأوكرانية للحصول على الخبز، تُعرَض وجباتهم الغذائية العسكرية المكتوب عليها "ليس للبيع" مقابل ثلاثة دولارات للعلبة على موقع eBay الروسي!

أما الوقود فقد بات عُملة نادرة بالنسبة للجيش الروسي، رغم أن بلاده تُعَد مِن أبرز الدول المُنتجة والمُصَدِّرة للنفط والغاز، الى درجة التلويح بقَطعه كسلاح في وجه بعض الدول لثنيها عَن دَعم أوكرانيا. شحّة الوقود وصعوبة وصوله الى القوات الروسية أبطأت من وتيرة تقدمها في أوكرانيا، ودفعتها الى تغيير ستراتيجيتها في الحرب، مِن إحتلال العاصمة كييف والإطاحة بحكم الرئيس زيلنيسكي، الى ما تُسَمّيه الآن بهدفها الأساسي، وهو تحرير منطقة دونباس! هذا بالإضافة الى عدم التحكم في استهلاك الوقود، حتى في حال توفره، فهنالك دائماً تقارير عن موظفين داخل منظومة الجيش يجنون أموالًا طائلة من بيع البنزين والديزل. على سبيل المثال، ذكرت وكالة أنباء تاس عام 2019 أن ثلاثة جنود في سيفاستوبول إحدى مدن شبه جزيرة القرم، سرقوا 126 طناً من الوقود وباعوها مقابل 3 ملايين روبل. الأوكرانيون بدورهم، الى جانب حلفائهم الأمريكان والأوروبيين، إنتبهوا الى نقطة الضعف هذه، وبدأوا بالعمل وفق معطياتها. فالمتحدث بإسم البنتاغون جون كيربي قال أواخر مارس: "نحن نرى مؤشرات على أن الروس لم يخططوا بشكل جيد للخدمات اللوجستية" وأضاف"نحن نعلم أنهم ما زالوا يعانون من مشاكل الوقود، وأنهم ما زالوا يكافحون من أجل الغذاء".

لا يختلف الجيش الروسي في معاناته مِن الفساد عن مؤسسات ودوائر الدولة الأخرى، في بلاد تحتل المرتبة 136 على مستوى العالم في مكافحة الفساد، وفقاً لتقارير منظمة الشفافية الدولية، التي تشير الى أن روسيا لديها نسبة فساد عالية، خاصة في قطاع الدفاع، ورثتها من الجيش الأحمر والإتحاد السوفيتي. ورغم أن وسائل الإعلام تسمح فقط بنقل ما تعلنه الجهات الرسمية عن الجيش، إلا إن مشكلة الفساد في الجيش لطالما كانت معروفة، على الأقل من خلال ظاهرة الجنود الفضائيين الذين تركوا الجيش، لكن أسمائهم ما تزال على الورق، ووضباطهم ما زالوا يأخذون رواتبهم وكأنهم ما زالوا في الخدمة، وهي طريقة شائعة لسرقة الأموال في الكثير من الجيوش. بسبب هذه الإشكالية كان العدد الدقيق للجنود المتواجدين على الأرض، ولا يزال، غير واضح للقيادة الروسية، مما دفعها الى الإستعانة بالمُجَنّدين والمُرتزقة بعد وقت قصير مِن بدء الحرب. بعد حرب 2008 في جورجيا، وجَدَت روسيا أن قواتها لم تكن مُجَهّزة للصراعات الطويلة في العصر الحديث، وكان يفترض أن يعالج وزير الدفاع آنذاك، أناتولي سرديوكوف الوضع ويصلح الجيش وهو ما فعله الى حد كبير. فقد حارب الفساد والصفقات المشبوهة مع مُصَنِّعي الأسلحة، فنما عدد خصومه بشكل كبير لدرجة الإطاحة به عام 2012.، لذا عمل خليفته، سيرجي شويغو، الذي يشغل المنصب الى اليوم، على إثبات حُسن نيته لجميع المُنتفعين مِن مافيات الفساد، مِن خلال عدم اتخاذ إجراءات ضِد صفقاتهم المَشبوهة، وعَدم الإصطدام بمُوَرِّدي الأسلحة، مما أضاع على روسيا فرصة تطوير جيشها.

لقد حَدّدَت وزارة الدفاع الروسية نسبة المواد العسكرية الجديدة بأكثر من70% في يناير 2022، ومع ذلك فإن هذه الأرقام "وهمية تماماً"، وفقا لما ذكرته منظمة الجريمة المنظمة والفساد. فقد نقلت المنظمة عن باحث عسكري قوله: "نحن نرى نماذج جديدة من المُعِّدات، كالصواريخ والدبابات والغواصات، لكن فقط بين الحين والحين"، وقد يفسر هذا سبب إستمرار إستخدام أسلحة ومنظومات سوفيتية قديمة بشكل أساسي في أوكرانيا. هناك العديد من الابتكارات التكنولوجية التي يمكن أن تزيد من دقة الهجمات الروسية، ومع ذلك لم يتم تفعيلها في الجيش الروسي بسبب الرشوة والإختلاس والإحتيال". على سبيل المثال في عام 2012 تلقى مقاول دفاع روسي حوالي 26 مليون دولار لتطوير نظام لإعتراض الصواريخ، حسبما ذكرت الصحف المحلية، لكن الأبحاث لم تنطلق أبداً لأن شركته وقّعَت عقود مع شركات وهمية. كل هذ الفساد والجشع خدم أوكرانيا في النهاية، لذا قدم ألكسندر نوفيكوف، رئيس وكالة مكافحة الفساد الأوكرانية، الشكر لشويغو، لأن إختلاس الأموال العامة يُقَدِّم حسب قوله "خدمة لا تقدر بثمن للدفاع عن بلاده". وهو أمر ربما لن يكون حاسماً بالنسبة لنتيجة الحرب، لكنه سيُضعِف روسيا، وقد ينقذ أوكرانيا.