الظهران*: "الحياة مثل صندوق الشكولاتة، لا يمكنك أبدًا معرفة ما ستناله"، عبارة سينمائية أدخلها روبرت زيميكس التاريخ عندما قالها بطله الأشهر "فورست جامب" على لسان توم هانكس. عبارة لخصت عبقرية فورست، الشاب طيب القلب منخفض الذكاء الذي ألقته الأقدار في قلب صندوق الشكولاتة فعاش ألف حياة ودخل التاريخ من أبواب عدّة.
ما علاقة العبارة بموضوع مقالنا؟ أن شخصًا لو قال قبل أعوام تُعد على أصابع اليدين، وربما اليد الواحدة، أن المهرجان القومي للسينما المصرية، بعراقته وقيمة التاريخ السينمائي الذي يُمثله، سيتزامن مع مهرجان أفلام السعودية، البلد الذي كانت السينما فيه حتى وقت قريب نشاطًا محظورًا يمارسه العُشّاق سرًا، فتكون الغلبة التنظيمية والإعلامية – وربما الفنية – للحدث السعودي، فربما اعتُبر هذا القائل مخبولًا، أو على أحسن الفروض حالمًا لا يعيش على أرض الواقع. حسنًا، الحلم صار حقيقة!
جوائز ومهرجانات وطنية
الجوائز الوطنية السنوية للأفلام موضوع أبحاث عديدة يمكن التفكير فيها، بتجلياته المختلفة التي تتراوح بين تنظيم حفل جوائز سنوي على غرار أوسكار الأميركية وبافتا البريطانية وسيزار الفرنسية، ونظائرهم ذات الطابع الغربي المرتبط بوجود مؤسسات موثوق في اختيارات أعضاءها، بينما يُفضل الشرق ومنه مصر فكرة المهرجان ولجنة التحكيم المعلنة التي تتغير من عام لآخر، بما تكفله من قدر مقبول من الثقة في استقلالية الآراء أو على الأقل في معرفة أصحابها. التجليات تستمر أيضًا بين تأهل كل الأفلام المعروضة وطنيًا لتكون مؤهلة تلقائيًا للمنافسة، وبين فتح باب التقدم لمن يرغب في الترشح للجوائز، وبين تنظيم مهرجان تُقام فيه عروض للأفلام المؤهلة، أو الاكتفاء بكونها جوائز يتم التصويت عليها من واقع متابعة الخبراء والمحترفين للصناعة على مدار العام.
الأشكال عديدة ولكن تبقى القضية الأهم هي قيمة الجائزة وأثرها: هل يحترمها صنّاع الأفلام المحليين بالفعل أم يتعاملون معها على اعتبارها مجرد "تكريم آخر" من التكريمات التي صار الجميع يمنحونها ويتقلدونها آناء الليل وأطراف النهار؟
كل الأفكار السابقة وردت على الأذهان مع متابعة مهرجان أفلام السعودية في دورته الثامنة، وهو الحدث الذي بدأ قبل سنوات كفعل تمرد يجري على الهامش، في خفوت وأحيانًا في سرية، ساعيًا للتعبير عن الوجود قبل أي هدف آخر. "نحن هنا رغم الصعاب"، رفعها السينمائي الرائد أحمد المُلا وهو يطلق مهرجانه وحوله مجموعة من المهاويس، الحالمين بالسينما وسط ظروف ضاغطة ومعادية.
اليوم تغير كل شيء، المملكة صارت مركزًا لصناعة ناشئة لا تسعى فقط للحضور وإيجاد صوت خاص، بل تضع المد الثقافي والتأثير في المحيط هدفًا استراتيجيًا يمكن أن تلمسه في كافة الأنشطة الجارية. في حالتنا هذه نجدها في الهدف والمحتوى والموقع. الهدف هو اجتماع صناع السينما بالمملكة لأسبوع من كل عام، المحتوى أفلام واعدة يمتاز كثير منها بالجودة والطموح، ونقاشات ثرية تحاول الإجابة على تساؤلات عدة أهمها: ماهية الفيلم السعودي الناشئ. أما المكان فحدث ولا حرج، مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي "إثراء"، الصرح الثقافي والمعرفي الذي يحلم أي منظم مهرجانات أو ناشط ثقافي أن يجد مساحة مماثلة ليؤدي عمله داخلها.
عن المهرجان والحضور والتكريم
على مدار ثمانية أيام كاملة، عُرضت الأفلام بحضور صناعها الذين سافر أغلبهم خصيصًا لحضور المهرجان (لاحظ أننا نتحدث عن مهرجان يقام في المنطقة الشرقية بينما يتركز الشق الأكبر من الصناعة في المدينتين الأكبر الرياض وجدّة)، لتُناقش الأفلام بعمق ليس فقط مع الجمهور الذي تعطش طويلًا لامتلاك سينما محلية، ولكن بين صناع الأفلام أنفسهم، والذين حضروا حفل الختام جميعًا، من فاز منهم ومن لم يفز، بينما يقتصر الحضور في مهرجان مصر العريق على من يتم إبلاغهم مسبقًا بالفوز، فلا مجال أن تحضر وتخسر في زمن صار الفنانون فيه يحجمون عن زيارة مقر جريدة عريقة لعمل ندوة صحفية طالما لم تُسمى الندوة – كذبًا – تكريمًا، ولم تنته بمنح "المُكرم" درعًا أو كريستالة بلا قيمة!
قد يبدو الحديث السابق لاذعًا، وأعي جيدًا أنه يغفل جانب التراكم الزمني، فشتان بين صناعة وليدة يستمتع جُل من فيها بالوجود والاعتراف والتقدير بعد عقود من الغبن، وبين صناعة عريقة رسخت آلياتها وعرف من فيها من أين تؤكل الكتف. والدليل أن المهرجان القومي المصري وقت تأسيسه كان حدثًا كبيرًا حافلًا بالنجوم والحضور والمناقشات، فلربما يصير "أفلام السعودية" باهتًا إذا ما تطورت الصناعة وامتلكت نجومها أمام وخلف الكاميرا، وصار لكل منهم أجندة اهتماماته ومكاسبه.
يبقى الحاضر حالة تُرصد فتحُلل لاستشراف المستقبل، وكل شيء وارد في الحياة الأشبه بصندوق الشكولاتة. لكن الأكيد أن مهرجان أفلام السعودية في نسخته الثامنة كان حدثًا سينمائيًا وثقافيًا كبيرًا بكل المستويات، بعروضه وندواته ونقاشاته، وبنشر 15 كتابًا سينمائيًا جديدًا بين مؤلف ومترجم، كلها نُشرت بأفضل وأفخر صورة ممكنة، بينما قرر المهرجان القومي المصري، وبعد أعوام من نشر مكتبة سينمائية رائعة تؤرخ لأهم صناع السينما المصريين وضع لبنتها الراحل الكبير علي أبو شادي، أن يتوقف عن نشر الكتب بحجة توفير النفقات، رغم وجود الأستاذ والناقد الكبير كمال رمزي على رأسه.
وقود هذا المقال انفعالين متداخلين: الفرحة بتجربة مهرجان أفلام السعودية وبالسينما الناشئة المليئة بالآمال في المملكة، والإحباط والغيرة من أن تفقد السينما المصرية، بكل ما لها من تاريخ هائل تصغر أمامه كل التجارب، القدرة حتى على تنظيم مسابقة وطنية مؤثرة وملائمة للعصر.
ملحوظة فرعية: احترت كثيرًا في وضع موقع كتابة هذا المقال، بعدما فهمت لماذا ينسب أبناء المنطقة الشرقية أنفسهم للمنطقة ككل وليس لمدينة بعينها. فمن يحضر المهرجان يصل إلى ويسافر من مطار الدمام، يسكن في الخُبر، ويشاهد الأفلام في الظهران، وكلها مدن حسب التقسيم الإداري، لكنها حواضر متجاورة ومتداخلة على المستوى الإنساني. لكنني انحزت في النهاية لمكان العرض ولمركز "إثراء" وكتبت المقال من الظهران.
*نُشِرَ هذا المقال في "جريدة القاهرة" الورقية بتاريخ 21 يونيو\ حزيران الجاري.
التعليقات