عاد النقاش حول الملف النووي الايراني إلى مربع ماقبل 2015 مع فوارق كبيرة تصب جميعها في مصلحة إيران، أولها إستغلال إيران الإتفاق النووي الذي وقعته مع مجموعة "5+1" كغطاء وفر شرعية دولية لأنشطتها النووية طيلة السنوات الماضية حتى الإقتراب من مستوى تخصيب اليورانيوم اللازم لصناعة سلاح نووي، فضلاً عن تطوير برنامج صواريخ باليستية قادر على إستهداف الدول الشرق أوسطية المجاورة، والوصول إلى شرق ووسط أوروبا. ثانيها توسع النفوذ الإقليمي لإيران (بما في ذلك بناء وتعزيز شبكة وكلاء إقليميين قادرين على نشر الفوضى في مختلف مناطق الشرق الأوسط) حتى أصبح هذا النفوذ ورقة تفاوضية مؤثرة في أي مفاوضات تعقدها مع القوى الإقليمية والدولية، وثالثها إمتلاك ترسانة أسلحة تقليدية تلعب فيها الطائرات المسيرّة دور رئيسي بما تمتلك من قدرة تهديدية لأمن دول الإقليم، فضلاً عن المصالح الاستراتيجية الأمريكية.
وفي ضوء عودة التوتر إلى علاقات إيران مع وكالة الطاقة الذرية ونذر الفشل التي تخيم على مفاوضات فيينا، التي تبدو وكأنها في حالة وفاة إكلينيكية، يصبح السؤال الأكثر الحاحاً هو: ماهي خيارات دول المنطقة في حال فشل/ السيناريو الأمريكي البديل للسيطرة على التهديد النووي والصاروخي الايراني؟
المؤكد أن دول المنطقة كانت قد هيأت نفسها لسيناريو إحياء الإتفاق النووي من خلال محاولة بناء الجسور وفتح قنوات التواصل مع طهران، والأمر قد يبدو مختلفاً بعض الشىء في ظل مؤشرات الفشل التي تخيم على جهود إحياء الاتفاق، ولاسيما أن الأزمة الأوكرانية قد أنتجت متغيرات إستراتيجية جديدة تدفع إيران باتجاه تشديد مواقفها إقليميًا ودولياً.
الواقع يقول إن ممارسة ضغوط اقتصادية وسياسية ودبلوماسية ضد طهران لن يحقق النتائج المرجوة سواء لأن أوروبا لن تدعم هذا السيناريو في ظل تعطشها للطاقة ورغبتها في الحد من الإعتماد على الغاز الروسي، أو لأن أي حملة ضغوط أمريكية ضد إيران ستجابه ليس فقط بتحد إيراني بل برفض صيني ـ روسي، ناهيك عن أن الإدارة الأمريكية نفسها لم تغامر بأي إجراء غير محسوب ضد إيران في ظل اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي.
ما أعتقده أن إدارة الرئيس بايدن لن تفقد الأمل بسهولة في إحياء الإتفاق النووي أو حتى التوصل إلى "صفقة" جديدة مع إيران، ليس فقط لأن الحديث عن ردع التهديد النووي الإيراني من دون اتفاق موضع شك لدى معظم الأوساط الغربية، ولكن أيضاً لأن الولايات المتحدة لا تريد بالتأكيد دفع الأمور باتجاه بناء حلف صيني ـ روسي ـ إيراني. وفي ظل ترابط الملفات وتأثرها ببعضها البعض، فإن نتائج مايحدث على الأرض الأوكرانية ستكون له تبعات مؤكدة على ملفات إستراتيجية أخرى في مقدمتها الملف الايراني؛ بمعنى أن إنتصار أو هزيمة روسيا وتراجعها بأي شكل من الأشكال يعزز مساعي واشنطن لتضييق الخناق على إيران، واحتواء الصين، والعكس سيجعل إيران معضلة كبرى للسياسة الخارجية الأمريكية، حيث يصعب الحديث عن أي فاعلية للعقوبات سواء في ظل الدعم المتبادل بين الصين وروسيا وإيران، أو في ظل الثغرات التي تشوب تطبيق العقوبات على مبيعات النفط الإيرانية، والتي تحد من فاعلية العقوبات وتوفر للنظام الإيراني موارد تتيح له مواصلة دعم الميلشيات وتطوير قدراته التسليحية.
بلا شك أن أي بديل في التعاطي مع التهديد الإيراني لن ينجح سوى في حال شعور النظام الإيراني بالتعرض لخطر الإطاحة بضربة عسكرية تستهدفه بشكل مباشر أو تسهم في إضعاف موقفه وإطاحته شعبياً، وفي ظل ضعف إحتمالية لجوء الولايات المتحدة لهذه الضربة أو حتى التلويح بها، يبقى الخيار الدبلوماسي هو القائم فعلياً رغم ضعف فرص نجاحه في ظل إفتقاره لمخالب وأوراق ضغط موازية تعزز فرص القبول به.
وبالعودة إلى السؤال الأساسي حول خيارات دول المنطقة في هذه الحالة، يمكن القول بأن توجهات النظام الإيراني لا تمكّن المراقب الموضوعي من بناء توقعات مقبولة بإمكانية التوصل إلى حلول وتسويات لإحتواء التوترات الإقليمية، سواء لأن طهران لاعب رئيسي فيها، أو لأن هناك رغبة إيرانية عارمة في ممارسة الهيمنة، وأن يكون أي نظام إقليمي خاضع لسيطرتها ويعمل وفق أهوائها، وهذا أمر لا يتماشى مع توازنات القوى الإقليمية الحالية سياسياً واقتصادياً وأيضاً عسكرياً. وبالتالي فإن بناء شبكة تحالفات دفاعية بين دول المنطقة، عوضاً عن إنحسار الإهتمام الأمريكي بأمن المنطقة واستقرارها، سيكون البديل الأكثر ترجيحاً وواقعية في التعاطي مع أي تهديد لهذه الدول، بحيث يكون هناك قدرة جماعية على ردع هذا التهديد وتوفير الحماية الكافية لكل دولة من الدول في حال التعرض لخطر.
المؤكد أيضاً أن هناك ضرورة لإستيعاب الواقع الإستراتيجي الجديد إقليميًا ودولياً، وبناء إستراتيجيات وفقاً لهذا الواقع، ومن ثم فإن تعزيز العلاقات الخليجية البينية مع إسرائيل وتركيا وغيرهما من دول المنطقة يمثل توجهاً حيوياً لا مناص عنه، كما ينبغي المضي في هذا التوازن الصعب بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وروسيا والصين من جهة ثانية، لأن أي بديل بخلاف ذلك يصب في مصلحة إيران ويحد من قدرة دول مجلس التعاون على التأثير في الأحداث من حولها.