منذ البداية، لم أكنّ من المهللين لما سًمي ب"الربيع العربي". فقد استنتجت من خلال ما حدث في العراق، أن سقوط الأنظمة الموصوفة ب"الديكتاتورية" لا يعني بأيّ حال من الأحوال المرور مباشرة إلى نظام ديمقراطي يضمن الاستقرار والأمن للبلاد والعباد، ويُحقّق العدالة الاجتماعية المرجوّة. وكنت قد دُعيت إلى معرض الكتاب في براغ إثر سقوط نظام بن علي بثلاثة أشهر فقط. وكان جل الكتّاب العرب المدعوين إلى المعرض مستبشرين خيرا ب"الربيع العربي" بمن في ذلك المغربي الطاهر بن جلون، والمصرية منصورة عز الدين. إلاّ أنني أعلنت في كل الجلسات التي خُصّصت لنا أن البلدان المعنيّة ب"الربيع العربي" سوف تشهد أوضاعا صعبة، بل مأساوية. وقد حدث ما توقعته في البلدان المذكورة. وفي تونس، هاجمني الكثيرون بسبب موقفي، لكني صمدت وتحديتهم بروايتي التي حملت عنوان :"أشواك وياسمين" وفيها أرسم صورا مرعبة عن الفوضى المدمرة التي استفحلت بعد انهيار نظام بن علي، وعن العنف والإرهاب وكل أشكال الجريمة السياسية وغيرها التي كان الإسلام السياسي متمثلا في حركة النهضة الإسلامية سببا فيها، بل ضالعا فيها. وفي روايتي المذكورة، استحضرت بن كيداد المُكنّى ب "صاحب الحمار" الذي أحرق تونس في القرن العاشر ميلادي مُلمحا إلى أنه عاد من جديد في صورة شيخ بالبدلة الافرنجية، وبربطة عنق. وفي روايتي الثانية التي صدرت عن دار الآداب قبل ثلاث سنوات، بعنوان:" لا نسبح في النهر مرتين" أرسم لتونس بعد انهيار نظام بن علي من خلال ثلاث شخصيات مختلفة صورة مرعبة لما حدث فيها من خراب ومن دمار ومن أزمات دفعت البعض إلى الانتحار أو إلى الجنون مثلما حدث لسليم، أحد الشخصيات الثلاث في الرواية. كما أتطرق إلى أحداث تاريخية عاشتها تونس قبل الاستقلال وبعده. وقد تكون أدت إلى "ربيع الدمار والخراب".

والحقيقة أن أحد أسباب الأزمات الخانقة التي تتخبط فيها تونس منذ أزيد من عقد هو تكاثر الأيديولوجيات فيها مُفرّخة أحزابا بلا قاعدة شعبية، ولا برامج لها سوى الشعارات الجوفاء. وأغلب هذه الأيديولوجيات أثبت التاريخ والواقع بطلانها وخواءها وسطحيتها ومخاطرها في العديد من البلدان في مراحل مختلفة من التاريخ المعاصر. فالشيوعية على طريقة الألباني أنور خوجه والتي يتبناها حزب العمال الذي يتزعمه حمه الهمامي دفنت وإلى الأبد منذ انهيار جدار برلين بعد أن دمرت بلادا، وأنهكت شعبا. والقومية العربية بحسب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والتي يروج لها اتباع ومناصرون جلهم من الجنوب التونسي، باتت ذكرى بعيدة ومؤلمة تحيل إلى هزيمة حرب67 ، تلك الهزيمة المرة التي ما يزال العالم العربي يعاني من تبعاتها إلى حد هذه الساعة. والإسلام السياسي الذي تمثله حركة النهضة خرب بلدانا عربية وإسلامية، وفيها فجر حروبا أهلية وقبلية مثلما هو الحال في السودان وأفغانستان وباكستان والجزائر والصومال...

وجل هذه الايديولوجيات التي ذكرت معادية للحركات الوطنية التي قاومت الاستعمار، وأسست الدولة التونسية الحديثة. لذلك هي لا تكاد تنقطع عن السعي لتزوير التاريخ، باذلة كل ما في وسعها لدفن تراث هذه الحركات التي جسدها أحسن تجسيد الحزب الحر الدستوري التونسي الذي أسسه الزعيم الحبيب بورقيبة في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، بمعية رموز من النخبة التونسية الصاعدة في تلك الفترة. وجميه هؤلاء دَرَسُوا في جامعات فرنسية راقية، وكانوا يتمتعون بثقافة واسعة، وبحس وطني رفيع تسلحوا به لتحمل السجون والمنافي وعمليات القمع الوحشية التي تعرضوا لها اثناء مقاومتهم للاستعمار الفر نسي. لذلك يمكن القول أن الهدف الحقيقي للمحاولات التي تقوم بها الأحزاب والمنظمات الأيديولوجية بمختلف تياراتها وتوجهاتها لدفن نراث الحركات الوطنية والاصلاحية هو تغيير وجهة تونس، واقتلاعها من أصولها لتكون في النهاية بلادا فاقدة للبوصلة، وللذاكرة، وهائمة على وجهها في بيداء شائكة قد يكون الخلاص منها صعبا، بل مستحيلا... وعندما نعلم ما فعلته حمى الأيديولوجيات بالعديد من البلدان في جميع أنحاء العالم، فإنه لا يمكن أن نكون إلاّ متشائمين بحاضر وبمستقبل تونس المصابة راهنا بهذه الحمى الخبيثة والمدمرة على جميع الأصعدة...