نجحت ثورة تشرين في تغيير أفكار الكثير من معارضيها الى مؤيدين وقلب مفاهيم سياسية واجتماعية والفضل الأول في ذلك هو لرجال الدولة ما قدموه في هذه المرحلة من أداء هزيل من جهة وطائفي مقيت وفاسد من جهة أخرى، نتانة هذا الأداء ازكم انوف الناس وانهك كاهل الدولة والمواطن.

لكن يجب أن أذكر أمرا مهما لأجل احقاق الحق!
عندما بدأت الثورة لم يكن كل المعارضين كارهين للتغيير، لكن كان منهم الاناني الذي فضل الذهاب غير مهتم بطلب العصيان المدني الى الدوام حفاظا على مصلحته وراتبه متجاوزا أجساد شباب الذين سدوا الطرقات بأجسادهم، وهناك من خاف على الوطن وهناك الذيول المرتبطين بأجندات خارجية لا علاقة لها بالوطن، وهناك الجبان الذي خاف من التغيير.
وللأمانة أقول لم أكتب هذا المقال لأشيد بموقف فلان أو أقلل من وطنية علان، لكنني سأحاول قدر الإمكان أن أقدم وصفا لما حدث ويحدث الآن على أرض الرافدين.
في تلك الفترة لم تكن الأحزاب العراقية تعارض علنا ثورة الشعب على واقع الدولة المزري عدا أحزاب انتهازية، ميكافيلية التفكير لم تتأخر في حمل السلاح بوجه المواطنين العزل، بتسليح يدافع عن الدولة الممولة لهم. أحزاب وفصائل مسلحة كانت ولا تزال على استعداد لحرق العراق والعراقيين وحتى معارضيهم حفاظا على مصالحهم، وقاموا بالفعل بتصفيات كثير من رموز ثورة تشرين، أمام صمت جماهيري يدل على مدى هوان الشعور الوطني عدا شجب من هنا ورفض فيسبوكي من هناك.

انتكاسة الشعب العراقي كبيرة!
لم يصدق العراق خلاصه من نظام البعث وحكومة صدام حسين ليكتشف أن من أطاح به جاء ليأخذ بثأره من العراق على حساب العراقيين، مدعومين بميليشيات تعمل بشكل منظم لصالح هذا الحزب وذاك.
ملاحظة! عندما خرجت ثورة تشرين اتهموا بانهم خونة بالضبط كما فعل نظام البعث تجاه الثوار بعد حرب الكويت. حينها كان في العراق سجون معروفة وجهات محددة تقوم بالاعتقال والتعذيب، أما اليوم أصبحت جهات عدة وميليشيات وسجون معروفة وغير معروفة، وشخصيات تضيع ولا نجدهم ولا حتى وراء الشمس.
وجد المواطن العراقي نفسه ضائعا في متاهة من التجاذبات الطائفية والقبلية جعلته يتمسك بها باحثا عن " العزوة" أو مجموعة تحميه وتضمن له حقوقه المشروعة وغير والمشروعة، بالضبط كدوافع انضمام المهمشين الى عصابات ومجاميع تضمن له الشعور بقيمته.
ليتحول العراق الى قرية حقيقية تحكمها قوانين البداوة والجاهلية، ولتكون الصورة واضحة أقول ان القانون السائد هو" قانون الغاب". كل هذه المجاميع بحاجة الى تشريع يضمن لهم سلامة الموقف، لذا نجد هذه المجاميع متمسكة بالطائفية والفئوية مشرعين لسلوكيات غير إنسانية وارهابية باسم الدين وضاربين في الوقت نفسه الدين و قول النبيّ -عليه الصّلاةُ والسّلام-: (دَعُوهَا، فإنَّهَا مُنْتِنَةٌ) عرض الحائط، ليتحول الدين الى أداة تشريع بيد كافة الفئات والمذاهب يتلاعبون به وليتحول الى صور واحتفاليات، بينما التطبيقات والسلوكيات بعيدة كل البعد عن رموزها.

الشعوب صاحية
يقال في أفغانستان "استمعوا الى خطب رجالات الدين، وأياكم أن تتبعوا خطواتهم"
جاهل من يعتقد أن الشعب أعمى، الشعب يرى، يسمع ويتأثر ويقتدي بقياداته. لهذا نرى أن الشعب يمارس الفساد في معظم تفاصيل الحياة، ويدفع الرشى وهو يصلي وحتى رجال الدين يستعيذون من الفساد يمارسونه مجبرين.
أما المثقف فتخلى عن مسؤولياته الأخلاقية وفي كافة المجالات، وخصوصا الوقوف بوجه الظلام وتنوير المواطن والتزم بالحد الأدنى من الالتزام الوظيفي ليحصل على راتبه وكثير منهم يتهرب حتى من هذه الالتزامات البسيطة. يقول الأستاذ الجامعي ر م المقيم في عمان شارحا سبب تخلي الأستاذ عن دوره التثقيفي على لسان زملائه: ((أخاف أن يرسب احد الطلاب في صفي فهذا من اتباع فلان وهذا من مجموعة فلان)).
الانتهازية والجشع سيطرا على سلوكيات المواطنين فاصبح الاجحاف في توزيع الفرص امرا اعتياديا، وعدم المساواة أمرا طبيعيا، فغاب بذلك منظور المستقبل من أمام عيون الشباب.
ليس غريبا أن تنتشر المخدرات ويخرج لنا جيل داعشي بامتياز وعصابات ومافيات وميليشيات تهدد كرامة الانسان، أمام دولة عاجزة عن وضع حد لهم.
وفي الوقت نفسه يرى الناس أن القانون أداة بيد المال والسلطة، فلم يعد للقانون حرمة فقط في القول.
فلا غرابة في أن يحقد الشاب الذي يعيش على هامش الحياة وهو يرى أن من يتمتع بخيرات البلد هو ذاته من سلبه كل حقوقه، وعليه سيعمل على استعادة حقوقه حتى ولو كانت بطرق غير قانونية تسمى "شطارة" مجتمع فقد بوصلته الأخلاقية بفعل عمل السياسيين.
العنف الذي نراه اليوم سيتفاقم مع قلة الموارد ومن أهمها تفاقم ازمة نقص المياه، في مجتمع تحكمه قوانين البادية، فمنذ الازل والصراع البدوي يدور حول المرعى الكلأ فكيف لو قلت المياه الى حد عدم الحصول على مياه الشرب.

للتاريخ أقول
في عام 1985 عندما كنت طالبا في كلية الزراعة، تمت دراسة عن سد الموصل ومواصفات مياه نهر دجلة. كانت النتيجة أن مياه دجلة صالحة للشرب والسقي حتى الموصل، صالحة للسقي وغير صالحة للشرب في بغداد وغير صالحة لشيء في البصرة.
يؤكد نشطاء البيئة في العراق أنه يُقذف في مياه نهر دجلة مليون و200 ألف متر مكعب من الملوثات فقط في مدينة بغداد، وهو ما تسبب بإصابة 600 ألف مواطن عراقي بمرض "السرطان"، مستشهداً بتقارير طبية لجهات مختصة.
ومع انخفاض مناسيب المياه وزيادة التلوث فيمكن القول أن المياه في بغداد هي مياه مجاري وفي البصرة هي مياه ثقيلة، أزمة ستزيد الحاجة الى مؤسسات صحية بمستويات عالية لا وجود لها على ارض وبنية تحتية مدمرة، أمر سيزيد مآسي الناس وسيزيد من حالات الانتحار الناتجة عن اليأس وتداعيات هذه الحياة المفروضة عليهم.
هذا الصراع سيغير من طبيعة العراق.
عندما تترك الدولة المواطن بلا مأوى وبلا فرصة عمل، فمن الطبيعي جدا أن يسلك طرقا غير قانونية أو غير شريفة، قد يصبح مجرما أو إرهابيا ليأكل ويشرب وسيقتص من رجالات الدولة سكنة القصور بطريقة أو بأخرى لكنها لا تصب في مصلحة البلد، في ظل غياب البوصلة الوطنية والقيادات وطنية.

حق الشعب في تحقيق مصيره
أعطت هذه الانتخابات الأخيرة إشارة واضحة بأن طريق الأصوات لن يوصل الى نتيجة وانسحاب الصدريين من العملية يؤكد أن الكرة في ملعب الشعب الذي لا يملك قيادات حقيقة.
الشعب العراقي سيصل الى نتيجة حتمية أن الحل بيده وعليه أن يتخذ موقفا تجاه من يحاول مصادرة صوته.
وهذا الموقف يذكرني بالحوار بين بورقيبة والعقيد القذافي. اذ نصح بورقيبة العقيد قائلا:

عليك أن تثقف شعبك.
أخاف أن يثور علي.
أن يثور عليك شعب متعلم خير من أن يثور عليك شعب جاهل. وهذا بالضبط ما ينتظر العراق مع سقوط المؤسسة العلمية والثقافية، ولا احتاج لوصف الخراب الذي ألم بهذه المؤسسة.

الحالة النفسية
تخلص الشعب العراقي من نظام البعث وفساد قصي وعدي ليقع في فساد عشرات من امثالهم وعشرات الأحزاب والفصائل نافسوا حزب البعث بكل سلبياته وتغلبوا عليه وهم ذاتهم من كانوا يلعنون سلوكيات النظام السابق ليمارسوا سلوكيات أكثر عبثية وظلما، ولتتمكن هذه المجاميع من شراء واختراق عدد كبير من قيادات ثورة تشرين و لتتحطم آخر أحلام الشباب، حالة اليأس هذه ستكون دافعا لثورة عارمة لا قيود لها.

اليوم
العراق على مفترق طريق وكل المؤشرات تشير باتجاه واحد وهو تنظيف المنطقة من السلاح المنفلت والذي هو بأيدي ميليشيات ترتبط بأحزاب لم تراعي لا الوطن ولا المواطن، وفي الوقت الذي كان الاعتقاد السائد أن هناك روابط مقدسة بين هذه المجاميع لا يتجاوزها احد، لتظهر تسجيلات المالكي الوجه الحقيقي لهذه المجاميع، ومدى تورطها في دمار العراق.
كيف سيتم التعامل مع هذا الصراع داخليا؟ وكيف ستتعامل قوى الشعب والدولة معهم؟، وما هو دور دول الجوار والدول العظمى؟ أجد من الصعوبة جدا التكهن به بمجريات الاحداث المستقبلية خطوة بخطوة، إلا أنني أقول يقينا أن هذه الولادة ستكون متعسرة قبل أن يرى العراق وجه المولود الجديد.