تلعب التوازنات الإستراتيجية دورا فعالا فى ضبط إيقاع النظام الدولى مستقرا وبعيدا_ قدر الإمكان_ عن الصراعات، ذلك من خلال محاولات القوى الفاعلة ممثلة فى الدول والتحالفات، فى الاحتفاظ بالقدر الأكبر من الإمكانات والموارد على كافة المستويات لا سيما الاقتصادية والعسكرية، وحتى السياسية والثقافية، ومن ثم يتحقق التقارب أو التعادل التام بين الأطراف الكافة، أو على الأقل التفاوت المعقول، وربما لم يتمكن القانون الدولى تفسه أو اللوائح لدى أكبر المؤسسات الدولية من حفظ النظام عند حالته المستقرة بقدر ما تمكنت توازنات القوى وانعكاساتها.
بالمقابل فإن أى اختلال فى التوازنات فيما بين الأطراف وبعضها، قد يحدث نوعا من الإمبريالة أو الهيمنة من قبل الجانب الأقوى، وبما يهدد الاستقرار المرجو للنظام الدولى وعناصره، ولعل التاريخ نفسه يعد شاهدا على خطورة الأوضاع الدولية وحجم الصراعات، فى ظل الهيمنة أو حتى السيطرة أحادية القطبية، ولا أدل على ذلك من مرحلة انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتى.
وثمة عدة اعتبارات تحكم استمرارية هذا التوازن، فى المقدمة منها العلاقات الدبلوماسية مع الاعتبارات الجيوسياسية، أضف أيضا قوة النظم داخليا، والأهم قدرة القوة الفاعلة على تقويض إمكانات القوى الأخرى، مثلما تفعل إيران على المستوى الإقليمى، وبالرغم من تراجعها نظامها الداخلى، وإضعافها من قبل الولايات المتحدة، لدرجة أوصلتها إلى مرحلة التكيف مع العقوبات، إلا أن أبرز ما يميز القوة الإيرانية إقليميا، هى محاولاتها المستمرة لإضعاف جاراتها، والسعى الدائم للاتحاد مع التحالفات الأقوى، بدليل التفاهمات الدائمة مع تركيا وروسيا.
واقع الأزمات المعاصرة يسلط الضوء من جديد، بل ويكشف بعمق قيمة مفهوم التوازنات، وجدوى الارتكان إليها فى ضبط إيقاع النظام الدولى، لا سيما الأزمة الأوكرانية، وبروز روسيا خلالها كقوة فاعلة عائدة وبقوة إلى المسرح الدولى، فى مواجهة تحالف غربى بقيادة الولايات المتحدة، ورغم العقوبات القاسية، لا زالت موسكو متقدمة سواء عسكريا_ وإن كانت أوكرانيا تمكنت من استعادة بعض أجزاء من الشمال وما حول كييف_ أو اقتصاديا بإيقاف إمداد الغاز، والأدهى رسالة بوتين الأخيرة والتى جاءت عقب وضع الحدود للغاز واسعاره من قبل أوروبا، لتأتى الرسالة محملة بالعبارات الصحيحة ومفاداها لا يحق للغرب أى شروط أو إملاءات، ومن المحتمل أن تطور روسيا من جبهتها الاستباقية فى مؤتمر شنغهاى والمقرر انعقاده بعد يومين، وخلاله ستسعى موسكو للتواصل مع بكين، وإن كانت ممارسات الصين متجهة ناهية الصعود الاقتصادى وبقوة، أكثر من مراعاة التوازن وإستراتيجياته.
وبالرغم من أن ثمة أزمات بعينها كشفت قوة التوازنات فى خلق حالة الاستقرار، إلا أن آليات الوصول إلى هذا التوازن فى حد ذاتها من شأنها الخروج بنتائج عكسية، قد تهدد هذا الاستقرار والذى يسعى النظام الدولى من أجل حفظه، ومع تسارع الأحداث ومجرياتها، تطل الأزمة الصينية_ التايوانية، ذلك عقب سعى الولايات المتحدة دعم تايوان، وإن كان الفارق العسكرى بين القوتين مذهلا، من حيث القدرات الدفاعية والتسليحية مع الميزانيات الموجهة للدفاع، فبينما تخصص الصين 230 مليار دولار، تخصص تايوان 16 مليار دولار.
الاستعانة بمفاهيم التوازن ومحاولة تحقيقه فى أزمتنا هذه، لن يجدى وربما يزيد الأوضاع اشتعالا، لا سيما فى ظل قدرات الصين الهائلة، أيضا سيطرة الجانبين السياسي والتاريخى على بكين وتايوان، وهو ما يعيدنا إلى بُعد مهم، يأتى ضمن أبرز الأبعاد والتى تحكم توازنات القوى وإستراتيجياتها، ألا وهو البعد السلوكى، ويقتضى حدودا معينة لممارسات الأطراف الفاعلة من أجل تحقيق التوازن، وهو ما يتفق وتصريحات هنرى كسينجر السياسي الأمريكى المخضرم، حينما أشار إلى البعدين القيمي والسلوكى كأبعاد مهمة لا بد وأن تحكم التوازنات الإستراتيجية، أي يجب أن تحكم التوازن سلوكيات وآدبيات، والأهم أن تقبل به الأطراف كافة.