في مطلع العشرينات من القرن الماضي، وبعد أن تأكد له أن فرنسا لن تعترف بحقّ الشعوب المولّى عليها في تقرير مصيرها بحسب ما جاء في تقرير الرئيس الأمريكي ويلسن، أصدر المصلح والمناضل الوطني الكبير الشيخ عبد العزيز الثعالبي(1876-1943)، كتابه الشهير تونس الشهيدة، وفيه اعتمد على وثائق وعلى مصادر فرنسية لوصف الأوضاع المتردية في تونس على جميع المستويات، وانعكاساتها المأساوية على حياة أبنائها.

واليوم يمكن أن نقول إن تونس "شهيدة" ثورتها المغدورة التي أطاحت بنظام الرئيس بن علي في الرابع عشر من شهر يناير-كانون الأول .

وقد أكد التاريخ في العديد من مراحله أن الثورات الكبيرة والصغيرة قد تنقلب على أهدافها ومراميها النبيلة المرسومة لها لترسي من جديد أسس نظم فاشية واستبدادية ربما تكون أسوأ وأفظع من الأنظمة التي تمت الإطاحة بها، فيصعد إلى كرسي السلطة رهط من الحكام يبيحون لأنفسهم باسم "الثورة" تكبيل الشعب بقيود جديدة أشد ايلاما وقسوة من سابقاتها.

لذا حذّر العقلاء من الفلاسفة والمفكرين والسياسيين من الثوريين المبشرين بتوفير الجنة على الأرض سواء كانوا بلحيّ الالحاد والعلمانية، أو بلحيّ التقوى والتقوى والطهرانية.

نعم تونس شهيدة ثورتها المغدورة التي كان شعارها في البداية:" خبز حرية كرامة وطنية"

أما الآن وقد مرت 11 عاما على انهيار نظام بن علي، لم يعد لهذا الشعار معنى ولا مصداقيته بعد أن أصبح التونسيون يلهثون يوميا للحصول على خبزهم اليومي الذي يزداد ثمنه ارتفاعا في كل مرة. وفي كل صباح، يستيقظ التونسيون على كابوس جديد، وعلى محنة تزيد حياتهم تعكرا ومرارة. وأكثر ما يؤرقهم راهنا هو فقدان المواد الأساسية في حياتهم اليومية مثل السكر والقهوة والطحين والزبدة والحليب وغير ذلك. لذا يمضون الساعات الطويلة في البحث عنها في محلات تجارية باتت فارغة وكئيبة كما لو أن البلاد تعيش حربا غير مُعلنة. والمعضلة الكبرى هو أن الحكام الذين جاءت بهم "ثورة الحرية والكرامة" لا يُعيرون معاناة التونسيين اليومية أدنى اهتمام. فإن علت أصواتهم وصرخاتهم بالتذمر والشكوى، يخرج لهم الحكام الجدد ليطلقوا الوعود والشعارات الفارغة بلا حساب، ثم يعودون إلى جحورهم لينشغلوا بصراعاتهم ونزاعاتهم الأيديولوجية المدمرة. وفي نهاية كل معركة، يخرج كل فريق ليتّهم الفريق الآخر بالضلوع في مأساة التونسيين، نازعا عن نفسه كل مسئولية في ما حدث، وفي ما يحدث، وفي ما سيحدث.

وأما الحرية فسراب خلفه سراب خلفه سراب. والذين يتمتّعون بها حقّا هم الفاسدون والمحتكرون والمهربون والمجرمون السابقون الذين حظوا بالعفو التشريعي العام الذي تمت صياغته بعد انهيار نظام بن علي، وجلهم ضالعون في جرائم إرهابية، أو من المتآمرين على أمن الدولة. كما يتمتع بالحرية المزيفون الذين ينسبون لأنفسهم بطولات نضالية وثورية في عهدي ورقيبة وبن علي. ولتشريع زيفهم وأكاذيبهم، يقضون جلّ أوقاتهم في الثرثرة الفارغة الموجعة للرؤوس عبر أمواج الأثير، أو في البرامج التنشيطية للقنوات التلفزيونية...لذا باتت كلمة حرية تثير غضب التونسيين بعد أن تبين لهم أن الذين يبالغون في استعمالها هم في الحقيقة مخادعون ومنافقون ومُضلّلون وباعة أوهام...

نعم تونس شهيدة أحزاب وتنظيمات وجمعيات تعد بالمئات، وجميعها بلا برامج سياسية أو اقتصادية او اجتماعية، أو ثقافية ولا دراية بشؤون الدولة، وبلا معرفة بالسياسة العالمية، وأساليبها وأدواتها. والمشرفون عليها لا يمتلكون سوى الشعارات الكاذبة والفارغة التي يتفننون في صياغتها للتغطية على جهلهم وخوائهم، وعلى عجزهم وسطحيتهم وانعدام كفاءتهم.

نعم تونس شهيدة الشعبوية القاتلة المفتوحة على الفوضى والتسيب والهمجية، وعلى انعدام الأمن الذي يهدد الاستقرار، ويُدخل البلاد في دوّامة العنف المؤدي إلى خراب البلاد، وتفقير العباد، وتسييد الفاقدين للشرف وللكرامة الوطنية...

وتونس التي كانت توصف ب"الخضراء" ذات يوم ، أصبحت قاحلة موحشة يفرّ منها شبابها مُفضّلين الموت في البحر، أو تحمّل مشاق التشرد والجوع على أرصفة مدن أوروبا على العيش تحت سمائها، وفي مدنها وقراها التي تحولت إلى مصبّ للفضلات والأوساخ...

فوا أسفاه عليك يا تونس الجميلة التي تغنّى بك شاعرك الكبير أبو القاسم الشابي، ومن فرط حبهم لك ضحى النبلاء من أبنائك بحياتهم، وبما هو غال وثمين لتكوني حرة مستقلة أبد الدهر، بعد أن أصبح يحكمك أعداؤك ، وبك يُنكلون، مزورين تاريخك، وناكسين لرايتك الملطخة بدم شهدائك الأبرار، ومُلغين احتفاليتك الوطنية الكبيرة فكأنك يتيمة مُهملة ومنسية، بلا جذور وبلا هوية...