ابتسامات الرئيس بشار الاسد وزغاريد النسوة من حوله خلال زيارته "التفقدية " لضحايا زلزال يُعدّ من أعنف الزلازل التي شهدها القرن، تتطلب منّا عميق التأمل لحالة الشعوب التي بلغت في تقديس زعمائها بل وجلاديها شأوًا تقف الكلمات حائرة عن وصفه. تلك الزيارة التي جاءت بعد أربعة أيام على الكارثة، وهي مدّة طويلة جدا في حال النكبات، تعكس حقيقة واقع مرير لا قيمة لبشر فيه ولا حجر، حيث يتعمد النظام و بشكل علني و واضح استغلال تلك الكارثة الانسانية سياسيًّا لتقديم نفسه من جديد عبر ديبلوماسية فاشلة.

كما يقوم بعرقلة واضحة لمنع وصول المساعدات إلى المناطق الخارجة عن سيطرته، ففي الشمال السوري المنكوب أصلاً و قبل حدوث الزلزال، كان يجري تسليم جميع المساعدات الإنسانية الأساسية لأكثر من أربعة ملايين شخص، يعيشون هناك في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة عبر معبر واحد، وهم بأمسّ الحاجة لضرورات الحياة بعد ان تكبدوا معاناة اثنتي عشر عاما من التهجير واللجوء، وبعد هذا الزلزال المدمر الحاصل في أبرد وقت من السنة تتفاقم مأساوية المشهد مما يجعل كل انسان على الأرض معني بتقديم العون. فيما اعلنت الأمم المتحدة أن قرابة 8000 مبنى تعرض لدمار كلي أو جزئي، وأن ما مجموعه 8.8 مليون شخص قد تضرروا. فيما لم يتجاوز عدد قوافل المساعدات التي تمكنت عبور مناطق النظام نحو الشمال الخمس قوافل خلال السنتين الماضيتين وقبل وقوع الكارثة!

والأدهى من ذلك ان جزء من المساعدات العاجلة التي ارسلتها بعض الدول العربية وسلمتها للنظام اصبحت تباع في الأسواق العامة، وهو سلوك احترفه النظام منذ بداية الأزمة، فقد أكد تقرير صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية "CSIS" تلك الاداعاءات، مشيرًا إلى أن النظام السوري استخدم المساعدات الدولية الإنسانية طيلة عشرة أعوام، لمصلحة عناصره ومسؤوليه وجيشه.

وفي بيان مشترك الأسبوع الماضي، أكد مدراء منظمات أممية ودولية عدة بينها منظمة الصحة العالمية والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين ومنظمة الأغذية العالمية أن غالبية سكان منطقة الشمال المنكوبة هم "من النساء والأطفال الذي يحتاجون هذه المساعدة للبقاء على قيد الحياة خلال ذروة فصل الشتاء ووسط تفشٍّ لمرض الكوليرا" الذي ينتشر في سوريا منذ أشهر.

فيما أرسلت بعد الزلزال حوالى 200 شاحنة إلى شمال غربي سوريا، مقارنة مع معدل 145 شاحنة أسبوعيا عام 2022، حسب منظمة "أطباء بلا حدود".

اما على صعيد المعدات وفرق الانقاذ فقد كانت فرق "القبعات البيضاء" هي الوحيدة التي تعمل على انتشال الجثث بمعدات بسيطة وتفان وجهود فردية منقطعة النظير، فالزلزال ضرب تركيا وسوريا فجر السادس من فبراير، لكن مساعدات الأمم المتحدة عبر باب الهوى لم تدخل إلا في التاسع منه، وكانت عبارة عن معدات خيم مجهزة منذ ما قبل الزلزال وتكفي 5 آلاف شخص فقط!

إلى الآن فإن معظم المؤسسات الانسانية تواجه عراقيل كثيرة وهي التي طالما واجهت تحديات وصعوبات وسرقات للمساعدات طيلة 12 عامًا في ظلّ وضع مزرٍ ومنهار تمامًا بفعل الظروف الجيوسياسية والحرب، مما يصعب دخول المعدات اللازمة في ظل غياب الممرات الإنسانية الآمنة. وعلى مرّ السنوات، تحوّل التصويت على قرار تمديد آلية المساعدات، وفق منظمة أطباء بلا حدود، إلى "أداة للتفاوض السياسي".

في ظل هذ المشهد الذي يورث القهر والخذلان لا يسعنا سوى ان ننحني اجلالا لأرواح من سقطوا تحت الانقاض، ولأولئك الأبطال من أصحاب "القبعات البيضاء" الذين يعملون بتفان منقطع النظير لانقاذ ارواح الناس والأطفال في وقت وقفت فيه الدول عاجزة عن ايصال الاغاثة اللازمة والمساعدات لاعتبارات سياسية كما وقفت الديبلوماسية الدولية من قبل متخاذلة خلال الحرب وهي ترى حمام الدم المهدور.

نعم انهم يستحقون أكثر من جائزة نوبل للسلام؛ فقد عملوا ولا زالوا يعملون تحت النار منذ أكثر من عشرة أعوام؛ ثلاثة آلالاف متطوع من شباب اخذوا على عاتقهم حماية الأرواح وانقاذها في ظروف شبه مستحيلة في أكثر الأماكن خطورة في العالم حيث تشكلت فرقهم بشكل عفوي من رحم التنسيقيات المدنية التي ظهرت ابان الحراك في سوريا عام 2011، وذلك بعد تخلي منظمات الإغاثة المحلية والدولية عن مهامها في إسعاف الجرحى، حيث تم تأسيس نحو مئة مركز في ثماني محافظات نهاية عام 2012 في ظل تساقط البراميل المتفجرة واشتعال الحرب الدامية، فيما تطوع الناشطون لأداء عملهم الانساني معتمدين في تلك المرحلة على معدات يدوية متطوعون من مختلف الفئات الاجتماعية والعمرية، استطاعوا أن يحوزوا على احترام العالم بعدما تصدرت صورهم وسائل الإعلام وهم يبحثون عن عالقين تحت أنقاض الأبنية أو يحملون أطفالا مخضبين بالدماء إلى المستشفيات ومراكز الإيواء.

وتعمل فرق الانقاذ هذه وفقا للقانون الدولي الإنساني، كما هو معرّف في البروتوكول الأول من المادة 61 في اتفاقيات جنيف لعام 1949، وتتعهد بتوفير الخدمات المنصوص عليها في قائمة المادة الخامسة للغايات التالية: حماية السكان المدنيين من الأخطار الناجمة عن الأعمال العدائية أو الكوارث الأخرى، وتسريع عملية التعافي من الآثار المباشرة لهذه الأعمال، إضافة إلى توفير الظروف الضرورية لنجاة السكان المدنيين. وقد نالت الخوذات البيض في سبتمبر من عام 2016 "جائزة رايت لايفليهود" المعروفة باسم جائزة نوبل البديلة، وذلك تقديرا لجهود أفراده في إنقاذ الأبرياء.

أخيرا، متى ستعي البشرية أن الألم الانساني واحد ومتى ستتوقف عن ممارسة عنجهيتها ومتى ستسقط الدول اعتباراتها السياسية أمام الكوارث، وكيف لنا كبشر ان نقدم العون لبعضنا البعض بمحبة بالغة لنبلسم جراح الانسانية. اذ لا بد وان نكون حاذقين ومتفهمين فكلنا ضحايا ذاك الزلزال الذي اصاب الجغرافية التي لا تعترف بتقسيمات السياسة. كما كلنا ضحايا العنف والحروب والديكتاتوريات وكلّ من اجج بذور الغضب في في كوكبنا. فلنكن ذاك الضوء الذي في الشمعة الملتهبة انه حارق ولكن يملك الاشراق لغد يوقظ المحبة والوعي. الضحايا ونحن منهم بحاجة لأن نتشارك وعينا لا بدافع العون وحسب بل بدافع المحبة والرأفة قبل كل شيء.