في بدايات الغزو الروسي لأوكرانيا، توقع الكثيرون إنتصاراً سريعاً لروسيا. لكن خلال الأشهر الماضية، فشلت موسكو بإثبات تفوقها جواً وبراً وبحراً. فعندما بدأت روسيا بحَشد قواتها على طول الحدود مع أوكرانيا وإجتاحتها قبل عام، إعتقد العديد من الخبراء والسياسيين أن كييف ستسقط في غضون بضعة أيام. لكن عندما تقدمت القوات الروسية إلى ضواحي العاصمة في الأيام الأولى، أوقفها الجيش الأوكراني وأجبرها على الانسحاب. للأسف لا تزال هذه الحسابات الخاطئة تتردد الى الآن، بسبب قصر النظر والرؤية السطحية للأحداث. وعلى الرغم من أن بوتين لم يعترف بذلك بشكل مباشر، إلا أنه بدأ يُهَيء بلاده مؤخراً لـ"حرب طويلة"، بعد أن صَوّر لشعبه في بداية الغزو بأنه سيكون نزهة و"عملية عسكرية" كما أسماه وفرض على الجميع تمسيته. كما أنه بدأ بتقليص أهدافه من الإستيلاء على كييف وإسقاط حكومتها المنتخبة ديمقراطياً كما أعلن عن ذلك في بداية الغزو، الى الإستيلاء على مدن شرق أوكرانيا وتعزيز سيطرته عليها!
جوياً، كان بوتين يَعتقد أن روسيا ستفرض سيادتها الجوية بسرعة، من خلال القضاء على القواعد والدفاعات الجوية الأوكرانية، وهو إفتراض ربما بُني على ملاحظات سابقة تتعلق بالحرب في منطقة دونباس الشرقية عام2014، رغم نفي روسيا تورطها بها، فحينها تكبدت أوكرانيا خسائر فادحة في الطائرات والمروحيات خلال الأشهر القليلة الأولى، ثم إختارت عدم إستخدام ما بقي منها. لكن الأمور سارت بشكل مختلف تماماً في الأشهر الماضية. إذ تبَيّن أن إعلان وزارة الدفاع الروسية نهاية فبراير الماضي سيادتها على المجال الجوي الأوكراني بأكمله غير صحيح، مع الإقرار بأن القوات الجوية الروسية متفوقة مِن حيث الحجم والتكنولوجيا، إلا أن أوكرانيا لا تزال تحتفظ بطائرات ومروحيات على الرغم من الهجمات الصاروخية على مطاراتها العسكرية، كما أن دفاعاتها الجوية تزداد قوة أيضاً. وتشير بعض المصادر الغربية الى أن روسيا فقدت مئات الطائرات والمروحيات منذ بدء الحرب، كما نفذ مخزونها من الصواريخ الذكية، لذا فقواتها الجوية باتت تعمل في نطاق محدود على الخطوط الأمامية، ولم تعد تغامر بالتوغل داخل أوكرانيا. وبدأت بدلاً من ذلك بإستخدام طائرات مُسَيّرة وصواريخ، بات يمكن إعتراضها بشكل أكثر فعالية من قبل الدفاعات الجوية الأوكرانية.
برياً، تحقق القوات الأوكرانية خلال الأشهر الماضية نصراً تلو الآخر. فهي تواصل إستعادة أراضيها من القوات الروسية المُحتلة في شرق البلاد. أما القوات الروسية التي أُسقِط في يدها، فلم يعد أمامها سوى قصف المدن والقرى بضربات صاروخية قاتلة وقصف عشوائي متواصل. وفي أماكن كثيرة باتت القوات الروسية أضعف من أن تمنع المزيد من التقدم الأوكراني. الدقة والسرعة التي قاد بها الجيش الأوكراني هجومه المضاد لإستعادة أراضية من القوات الروسية في شمال أوكرانيا كانت ملفتة للنظر ومَثار للإعجاب، رغم التفوق الهائل لإمكانيات الجيش الروسي. فقد قام الأوكران بعملية تمويه ذكية حين أعلنوا عن هجوم مضاد في الجنوب فيما أطلقوا هجوماً أضخم في شمال شرق البلاد لإستعادة مدنهم المُحتلة. فالجيش الأوكراني يستكشف نقاط ضعف قطعات الجيش الروسي، ويستهدفه من خلالها. بالمقابل يبدو أن بوتين لم تكن لديه خطة هجوم مدروسة. ففي فبراير هاجم جيشه أوكرانيا من أربع جهات متصوراً أن بإمكانه أن يُسقِط كييف، لكنه إضطر إلى الانسحاب في مارس. بعدها حاول الاستيلاء على الدونباس، وهنا أيضا تقهقر. كانت إستعادة كييف لخارسون في نوفمبر بعد الإنسحاب المُذِل للقوات الروسية ثالث ضربة موجعة لروسيا، بعد إنسحاب قواتها من الشمال في إبريل، ومن خاركيف في سبتمبر. وبعد 17 نوفمبر باتت روسيا تسيطر على ما مقداره 16% من الأراضي الأوكرانية، بعد أن كانت تسيطر على 22% منها في الأسبوع الرابع من الحرب.
بحرياً، أثبت أسطول البحر الأسود الروسي حتى الآن بأنه مِن أكبر الخاسرين في هذه الحرب. فقد تعرضت السفينة العملاقة موسكوفا، التي تعتبر فخر الأسطول الروسي وعموده الفقري قادته في بدايات الغزو وقبلها في حرب جورجيا عام وفي أحداث سوريا عام وأثناء ضم القرم، الى أضرار أجبرت طاقمها المكون من 500 بحار الى مغادرتها بعد أن إستهدفتها القوات الأوكرانية بصاروخين طراز نبتون المُصَنّع في أوكرانيا في أبريل، ثم غرقت في وقت لاحق. وقبل ذلك بشهر غرقت سفينة الإنزال ساراتوف بعد إصابتها بصاروخ أوكراني في ميناء بيرديانسك في بحر آزوف. ومنذ ذلك الحين، حافظت السفن التابعة لأسطول البحر الأسود على مسافة من الساحل الأوكراني الذي لا يزال تحت سيطرة كييف. كما أنهم لم يعودوا آمنين في قاعدتهم البحرية في سفاستوبول، التي هاجمتها أوكرانيا أكثر مِن مَرة بالطائرات المُسَيّرة.
أما في جبهة الحرب الألكترونية، فقد كان هناك هجوم إلكتروني واسع خلال الأيام التي سبقت الغزو، إستهدف خوادم العديد من البنوك والوزارات الأوكرانية، نُسِب إلى روسيا. لكن يبدو أن كييف كانت مستعدة جيداً لهذا الإحتمال وتعاملت معه على الفور، بالإضافة الى المساعدة الغربية في دعم الدفاعات الإلكترونية الأوكرانية، لذا كان تأثير الهجمات الإلكترونية اللاحقة أقل نجاحاً. فقبل أيام قليلة من الغزو، زود الإتحاد الأوروبي أوكرانيا بفريق إستجابة سيبرانية سريع. بالتالي يبدو أن الحرب الرقمية الروسية تتعثر بوَتيرة مُشابهة لتَعَثّر قطعاتها العسكرية في جبهات القتال.
الى جانب الخسائر الميدانية الفادحة في ساحات القتال، تسَبّب غزو روسيا لأوكرانيا بخسائر كارثية مُكلفة على المستوى الإقتصادي والمجتمعي داخل روسيا، ستزيد وتيرة التدهور الذي كان موجوداً أساساً فيهما قبل الحرب، والذي ستحتاج روسيا الى عقود لتتعافى منه. هنا يأتي السؤال المهم وهو: بعد كل هذا الفشل، هل سيعود بوتين الى رُشدِه إن كان قد بقي له رُشد، ويجنب نفسه وبلاده مزيداً من الهزائم والخسائر والعزلة والإذلال؟ أم أنه سيقول "علي وعلى أعدائي" ويَهدم المعبد، كما فعل شمشون، على رأسه ورؤوس الجميع؟
التعليقات