يدخل السودان منعطفا خطيرا، مع تزايد عمليات الاقتتال بين القوات المسلحة السودانية بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقياد محمد حمدان دقلو "حميدتي"، دون أدنى اعتبار لأية مهادنات أو مناشدات إقليمية ودولية، حيث تم اختراق الهدنة من قبل قوات حميدتي والتي تبادلت الإتهامات مع القوات الوطنية، و تحاول الهجوم على المقار العامة التابعة للجيش مع القواعد المتمركزة بأنحاء البلاد وتحديدا العاصمة الخرطوم، صاحبة النصيب الأكبر من أعمال العنف والاشتباكات الدامية أيضا كرفان، النيل الأزرق والنيل الأبيض، وغيرها من الولايات السودانية الملتهبة، بينما كانت تنتظر البلاد انفراجة سياسية عبر تسليم السلطة إلى نظام مدني، مع المضي قدما فى استحقاقات سياسية تستوجبها المرحلة، وأبرزها تشكيل حكومة مدنية مع صياغة دستور توافقي، فيما عرف بالإتفاق الإطاري والذي كان من المقرر إتمامه خلال الأيام القليلة الماضية وقبل اندلاع الاشتباكات بيوم واحد، ووقع عليه مجموعة من القوى العسكرية والمدنية وأيضا الثورية، وأشهرها القوتين العسكريتين_ الجيش والدعم السريع_ مع قوى الحرية والتغيير وبعض التحالفات الحزبية والشعبية.

ولعل ما يعاصره السودان يبدو متوقعا وبديهيا، فى ظل مجموعة من المؤشرات اعتبرت بمثابة مسارات معقدة لم تجد طريقها إلى التسويات وأبرزها:

نظام المحاصصة
توزيع السلطات ما بين اللاعبين السياسيين أو الأطراف المتصدرة المشهد، دون تجانس واضح فى الأيدلوجيات والاتجاهات من شأنه عرقلة سير العملية الديمقراطية، وربما أحيانا تفتقر التعددية للإيجابية المفترضة سيما فى الحالة السودانية، فمنذ الخمسينيات وما قبلها وتعاصر السودان إشكاليات تعدد الأقاليم والحركات مع رفض الجنوب، غير أن تحديات عدم الاستقرار حول صيغة دستورية توافقية مع السيولة الحزبية مثلت المعضلة الأكبر لدى البلاد، ثم توالت بعد ذلك التحزبات والتي ساهمت بدورها فى عدة انفعالات سياسية متتالية طالما ساهمت إلى حد يذكر فى تعقيد المشهد السودانى.

وعلى الرغم من أن نظام المحاصصة أو بمعنى أدق عملية توزيع السلطات ما بين الأطراف اللاعبة سواء عسكرية أو حتى ثورية وحزبية، انعكس بشكل واضح على تنوع وجهات والنظر وإفساح المجال أمام الأغلبية من المكونات المجتمعية وبغض النظر عن قناعاتها من أجل المشاركة السياسية، إلا أن ثمة بعض الإخفاقات اعتبرت نتاجا لهذا التقاسم ما بين القوى، أشهرها موجات الانقلابات والتي توالت على السودان، ولا أدل من انقلاب الأطراف فيما بينها وأحدثها ما نعاصره من قوات الدعم السريع على القوات المسلحة، ومن قبلها انقلاب القوات المسلحة "جيش البلاد" على الحكومة المدنية برئاسة حمدوك، أيضا الانقلاب الأشهر فى عهد البشير عام 2019 حينما تم الانقلاب على البشير بمعاونة وزير الدفاع عوض بن عوف، ومن ثم وضعه تحت الإقامة الجبرية.

الانفعالات السياسية الحادة
فى ضوء السيولة السياسية والمتعارف عليها فى السودان، من الممكن ملاحظة حالة مختلفة من الحراك السياسي الملفت، لكنه فى نفس الوقت قلما يتجه هذا الحراك فى مساره السياسي الصحي، بل على العكس كثيرا ما ينتج عنه موجات من الانفعالات السياسية إما فى صورة انقلابات أو مشاحنات وعدم إتفاق، وهو ما تم تجسيده وإبان الانتهاء من الإتفاق الإطاري، وعلى الرغم من أن الأطراف العسكرية هي من تصدرت المشهد ومن ورائها قوى الحرية والتغيير، إلا أنهما انقلبا ولم يتفقا وتعثر الإتفاق، والذى عقد بالأساس من أجل تهدئة الرأى العام السوداني على خلفية الاحتجاجات والتي اندلعت اعتراضا على إزاحة حكومة حمدوك 2022، ووقتها وقعت ما يقارب 40 حركة حزبية وثورية على بيان مفاده إخراج البلاد من أزمتها وتسليم السلطة إلى حكومة مدنية، ذلك عقب اعتصامات 2019 الشهيرة والتي ازاحت البشير،وهكذا احتجاجات ثم انقلابات وفوضى عارمة، أيضا اعتماد الجماعات المسلحة ضمن فصائل البلاد السياسية والمعترف بها، ومن ثم فإن معظم اتجاهاتها وتعاملاتها تأتي في إطار الانفعالات المسلحة، وأبرزها قوات الدعم السريع والتي وظفت فى دارفور من قبل البشير وتم الاستعانة بها من أجل تصفية الإقليم، وانتشارها بولاية كردفان من خلال جملة من الأفعال الإجرامية المسلحة، وتم بعد ذلك ضمها لجهاز الاستخبارات فى الفترة ما بين 2013_ 2014، أيضا انتشار أعمال العنف مابين الأقاليم والولايات المتأزمة أسفر عن إنشاء العصابات والمجموعات المتطرفة وجميعها تم اعتمادها إما ضمن قوات الجيش الوطني أو قوى الحرية والتغيير.

غياب الإستراتيجية
بالرغم من الحراكات السياسية والثورية المتعددة، إلا أن المعادلات السياسية السودانية دائما ما يحالفها الفشل، خصوصا أن خططها تفتقر إلى الإعداد الجيد والمحدد بفترة زمنية، حتى حينما تم وضع إطار إلزامي عقب إزاحة البشير، وتم خلاله استهداف تسليم سلمي للسلطة لحكومة مدنية، وضعت خلال 4 سنوات تخللها انقلابين مع الكثير من الحركات الاحتجاجية والانتفاضات، ما يعزى أيضا فشل معادلات سياسية على هذا القدر من الأهمية والصياغة المحكمة إلى عدة من الدلالات أهمها أن الأطراف المتحاورة لم تكن على نفس القدر من تغليب المصلحة الوطنية، وأن ثمة أهداف تعلقت بمصالح أخرى لم تكن معلنة.

وتبدو قناعات الحلول مدفوعة بمجموعة تصورات، أكثرها وضوحا على الساحة استمرارية الاقتتال بين القوتين العسكريتين إن كان الجيش الوطني أو قوات الدعم السريع، ومن ثم استدعاء التدخلات الدولية، عقب مجموعة من التصريحات المتبادلة بين القائدين مفاداها عدم التراجع، وأن الحل العسكري يبدو ملوحا فى الأفق دون بديل، بالمقابل أعلن الإعلام الأمريكي عن احتمالية التدخل، حيث تستعد واشنطن لبحث فرض عقوبات على مسئولين عسكريين فى السودان، معظمهم ينتمون للقوات المسلحة وقوات الدعم السريع، وهو ما طالبت به بعض المنظمات الحقوقية عقب ارتفاع أعداد الضحايا مسجلة 330 قتيلا، وإصابة 3200 بحسب منظمة الصحة العالمية، أيضا تدني الأوضاع الإنسانية هناك بعد أقل من أسبوع على اندلاع الصراع.

وثمة تصور آخر متعلق باحتمالية انصياع أحد الطرفين العسكريين للآخر، وهنا طالب عبد الفتاح البرهان قوات الدعم السريع بضرورة تسليم الأسلحة والخضوع، على أن يستكمل المسار الديمقراطي، ذلك أن فارق التسليح ومنهجية القتال تأتي فى صالح القوات المسلحة السودانية، وأن قوات الدعم السريع، لا زال عمادها أساليب حروب العصابات على العكس من الجيوش النظامية والمدربة.

تصور ثالث مفاده ظهور التكتلات المدنية وفى المقدمة قوى الحرية والتغيير بخارطة طريق جديد، على أن ينضم إليها البرهان عقب سيطرته على الأوضاع، لكن تظل المعضلة فى تمركز قوات الدعم السريع ما بين التجمعات السكانية، وهو ما ينذر بإطالة أمد المعارك.

وعلى هذا الأساس من التطور النوعي فى تركيبة الصراعات، تضرب لنا السودان مثالا مختلفا من بين الأوضاع الدولية والإقليمية، مفاده أن التحول الديمقراطي مثلما تعيقه الديكتاتورية ونظام الحكم المطلق، قد تعيقه التعددية أيضا.

[email protected]