كانت سنوات الحصار الطويلة على قطاع غزة كفيلة لكشف المستور، حتى أصبح الفلسطينيون وأهالي غزة خصوصاً يعون جيدا الحالة المزية التي يعيشون فيها، فلم تعد غزة مكاناً صالحاً للعيش، جراء الفقر المدقع واعتداءات الاحتلال التي تكاد لا تتوقف، في وقت تعيش قيادات حركة حماس المسيطرة على القطاع في بذخ وترف، حيث خرج أغلب نشطائها من إطار الصورة القاتمة للقطاع أين يوجد في الحديقة الخلفية قصور وأموال وحياة فارهة.

لم تكن مطالبات أهالي غزة بوضع اجتماعي يليق بهم من فراغ، فالواقع أشد قسوة من أن يعبر عنه في بضعة سطور، فغزة رقعة جغرافية صغيرة، تأوي أكثر من مليوني شخص أغلبهم عاطلين عن العمل والباقي يضع روحه على كفيه ليعمل في الداخل المحتل في رحلة محفوفة بالمخاطر، في حين يحاول العديد من الشباب الهرب من القطاع عبر مراكب الموت إلى تركيا ثم إلى أوروبا. نجد أبناء قيادات حماس تعيش حياة مترفة ويقيمون في فنادق فاخرة بين بيروت والدوحة وإسطنبول يصرفون الملايين من الأموال كان سكان القطاع أولى بها، وهنا لا بد من القول أن هذا الكلام ليس من وحي الأخبار فهذا ما قاله العديد من الغزيون ويتناقلونه فيما بينهم يوميا، وعلى هذا النحو، تحول قطاع غزة إلى مستنقع من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية. ولعل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة في صفوف آلاف الخريجين من الجامعات أفرز أمراضاً اجتماعية.

وبالرجوع إلى الوراء قليلا، استطاعت "حماس" تشكيل سلسلة من العلاقات والنشاطات في بعض الدول العربية، فقبل سنوات قليلة من الآن غادرت أغلب قيادات حماس القطاع نحو الدوحة واسطنبول وبيروت تحت حجج إدارة المشروعات الاستثمارية الضخمة التي تمتلكها وقياداتها في الخارج، فتضخم هذه المشروعات جعل قيادة "حماس" تفكر في ضرورة إدارة هذه المشروعات بشكل مباشر من قِبلها وليس بواسطة مقربين أو مناصرين لها مثل الاستمارات التي تم التحفظ عليها من قِبل السلطات السودانية؛ خصوصاً أن هذه المشروعات تُدر عليهم أموالاً طائلة تذهب إلى جيوبهم فقط ولا يستفيد منها أحد غيرهم، ولم يستطع نشطاء الحركة جدب أية مشاريع لقطاع غزة سوى بعض المشاريع التي لم تكفي لسد حاجة القطاع الأكثر كثافة سكانية فالعالم.

ولأن دوام الحال من المحال فقد اصطدم توغل حماس في بعض الدول العربية بواقع التطبيع حيث اتجهت السودان قبل فترة إلى تجفيف وتفكيك ما تبقى من وجود لحركة حماس بالبلاد، فعمدت على مصادرة جميع أصول وممتلكات الحركة المرتبطة بالنشاط التجاري والاقتصادي، مثل الفنادق، والعقارات، والشركات متعددة الأغراض، وأسماء الأعمال، وآلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية، هذا فضلاً عن الصرفات المختصة بعمليات حركة تحويل الأموال لحماس، وحسابات شركات وأفراد يعملون لصالحها، وتجميد أرصدتهم بالعملات المحلية والأجنبية، في عدد من البنوك السودانية، وقدرت جملة الموجودات والأصول الثابتة والمنقولة بنحو مليار ونصف المليار دولار، وهي استثمارات شخصية وضعت حماس على رأسها رجال أعمال وأشخاص من خارج غزة في محاولة لعدم لفت النظر، رغم إنكار الحركة لأي وجود مالي في السودان، لكن طلبها آنذاك من مصر وتركيا التوسط لدى القيادات في السودان كان أشبه بإعتراف ضمني بأحقيتها في الأموال المصادرة، رغم أن الغرض الأساسي لهذه الخطوة هو إكمال صفقة التطبيع بين السودان والكيان الصهيوني، وهي الصفقة التي ترتبط بشكل أساسي بتصفية أي نشاط سري لحماس أو حزب الله، على الأراضي السودانية بل وتعتبرها أمريكا شرطاً مطلوباً لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

وإن كانت خطوة السودان أكثر جرأة ووضوحا، فإن تركيا اتجهت بتحفظ هي الأخرى إلى فرض بعض القيود على قيادة حركة حماس داخل أراضيها، جاء ذلك على إثر التقارب الأخير مع إسرائيل وتبادل السفراء بين البلدين، على الرغم من رفض الحركة الاعتراف بهذا غير أن ذلك بدا جليا حين همت العديد من قيادات الحركة في مغادرة تركيا.

ومع هذا الانحصار الذي قوض تواجد قيادات حماس في هذه الدول أصبحت بيروت حاضنة رئيسية لقيادات حماس ومحطة مهمة لتواجدها السياسي والأمني. يأتي ذلك في ظل إعادة ترتيب العلاقة بين حزب الله وحماس.

وبين هذا وذاك تبقى هذه مجرد محطات عبارة، لا يمكن أن تعوض البيت الحقيقي، في غزة التي باتت بأمس حاجة لإعادة تهيئة للبنية التحتية والنهوض بالقطاع الاقتصادي بما يكفل تحسين المستوى المعيشي والاجتماعي لسكانها الذين ضاقوا درعا من عيشهم في مدينة محاصرة بخدمات متردية، ما يتطلب ترشيد النفقات الخارجية من القيادة التي ترعى القطاع وهو أقل ما يطلبه الغزيون.