جميع التكتلات الإقليمية يكون مبرر وجودها مبرراً اقتصادياً. ففي حين يرى "إرنست هاس" ضرورة التفريق بين مفاهيم التعاون الإقليمي والنظام الإقليمي والمنظمة الإقليمية والتكامل الإقليمي والإقليمية، إلا أن كل تلك المصطلحات، على اختلافها، مبعث وجودها واحد: اقتصاد وما يتبعه من سياسة ترسم حدوده وتكوّن آلة قوّة لحمايته. إن محاولة دمج تكتل إقليمي اقتصادي في مناحي أخرى خارج الجانب الاقتصادي لا تعني أكثر من اتفاق على السفسطة الجمعية التي تستند على قياس خاطئ، وهو القياس الذي يعتمد بشكل دائم على وجود حاجة لـ"سلوك إبعاد" تمارسه الجماعة الإقليمية ضد الآخر ولا يرتكز على أسباب منطقية. فكل التجمعات الإقليمية، المولودة بمبرر اقتصادي، تجد لها امتدادًا سياسيا يقوم على تنفيذها. بينما لا يمكن أن تتمدد إلى جوانب ثقافية أو اجتماعية بلا مبررات عرقية أو دينية توجد بداخلها على هيئة وجود حصري.

الجغرافيا، إذن، تبرر ولادة تحالف اقتصادي إقليمي، يقوم على تنفيذه تكتل سياسي، ويمكن أن تصاحب كل ذلك مظاهر احتفالية كرنفالية كتجمعات رياضية أو أنشطة عامة، لكنه، كوجود جغرافي، لا يمكن أن يؤسس لفرادة ثقافية أو اجتماعية أو دينية. دون أن نخلط بين توسل المبرر الإقليمي المتوهَّم، وبين وجود أسباب حقيقية قومية أو لغوية تؤسس لقواسم مشتركة حصرية تساعد على إنتاج، وبالتالي قراءة، أدب ما.

أما في الخليج العربي، التكتل الاقتصادي الإقليمي، فإن كان القاسم المشترك هو اللغة فهو يمتد من المحيط إلى الخليج ليضم اثنين وعشرين دولة عربية، وإن كان دينيا فيتشارك ذلك أكثر من مليار إنسان، وإن كان عرقيا فاليمن والشام جزء من قبائل عربية استقرت أو هاجرت بعد انهيار سد مأرب.

إنَّ مشكلة الثقافة بوصفها مظهرا من مظاهر الإبداع والعمل الإنساني هو أنها لا يمكن أن تخضع لديناميكية اقتصادية إذا لا يمكن أن تكون الدوافع الاقتصادية منتجةً لها، وإن كان اقتصاد الوفرة يرى أنه أحد أسباب التأثير في الإبداع والخلق الفني فهو ليس سمة إقليم جغرافي بعينه. وما محاولة تكريس مصطلح "أدب الخليج العربي" إلا تصور ذهني يقوم بدرجة كبيرة على ذاكرة أيقونية ذات حس قصير المدى يريد تعبئة إقليم تقوم فكرة وجوده الأساسية على التكامل الاقتصادي؛ ليجعل منه مجرد سلوك إبعاد للآخر، والذي هو في نهاية المطاف شريك في السمات المراد تكريسها، فلا فرادة دينية، ولا عرقية ولا لغوية تجعله تكتلاً ثقافياً بمبررات منطقية. بل إن "مصطلح الخليج العربي" يمتلك من السيولة ما يجعله غير قادر على احتواء جميع الدول المطلة على الخليج العربي.

إن ما يتم تكريسه اليوم كأدب خليجي، في ضوء خطأ معرفي قائم على قياس خاطئ في الأساس، سيؤدي مستقبلا، كنتيجة حتمية لفقدانه مبررات صياغته، إلى خلق تيار شوفيني مهمته الأولى ليست خلق إبداع بسمات خاصة لأنها غير موجودة بشكل حقيقي وإنما يتم اختلاقها وتكريسها، كما سيؤدي إلى خلق معايير غير دقيقة لممارسة سلوك الإبعاد الإبداعي والنقدي لفئات أخرى ومجتمعات عدة تشاركنا ديننا ولغتنا، لكنها مستبعدة من منطقنا الأدبي الجديد، المولود، خارج نطاق الأدبين العربي والإسلامي، فأدب الخليج العربي مولود بمشيئة ثقافية جمعية غير مدركة لأبعاده، وتقوم بتمريره من منطلق قبول ما هو مكرّس بالضرورة لا بالتجربة ولا بالمنطق.

وأخيراً،
مع إيمان شبه مجمع عليه بأهمية وجود الخليج العربي كتكتل اقتصادي إقليمي، واعتزازنا بوجوده وفاعليته الاقتصادية والسياسية، إلا أننا لم نسمع يوما بندوة تقام في معرض كتاب في إحدى العواصم الأوروبية تناقش (الرواية الأوروبية) فهم، على ما يبدو، أكثر وعياً من أن يمارسوا إسقاط المسمى الناشئ عن تكتل اقتصادي على الأدب وتصنيفه من منطق يتسق مع المنطق السياسي الاقتصادي، فلا يحاولون إيجاد ما يستحيل إيجاده. فهناك أدب الغرب وأدب الشرق، وهناك أدب لاتيني وفق معايير ليست إقليمية، ولا تحاول اختلاق المصطلحات السائلة كسلوك إقصاء للآخر، وجعل الأدب أداة لممارسات غير أدبية على الإطلاق.

بقي أن أشير إلى أن مصطلح "العالمية" حين تتم مناقشته كمسلّمة، في ندوة ثقافية عربية، هي الحكاية الأشد وجعا في وسط ثقافي يحركه إندماج الأنا القائم على التورط في فكرة جمعية غير مدروسة بدايةً؛ وبالتأكيد غير مجدية في المحصّلة النهائية.