ونحن في الأسبوع الثالث عشر بحرب إسرائيل التي تجاوزت حد الوصف، ونتركه للقارئ كي لا يتم وصفنا بمعاداة السامية عند أصحاب فيسبوك وجوجل وغيرهما من شبكات التواصل الاجتماعي، أو موالي حماس حسب حماقة قسم من اليسار الذي يقع في شرك الأيديولوجيا أو في أوهام معاداة الإسلام السياسي، ونحن نودع عام 2023، وحالة نفاق المجتمع الدولي في وضع لا يحسد عليه، بل وأكثر من ذلك يعيش أحلك أوقاته، والفضل يعود إلى المارد الإنساني العظيم، وهو يقف منتصب القامة في جميع بلدان العالم، وخاصة في عقر الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان ضد جرائم دولة إسرائيل الفاشية تجاه الفلسطينيين بحجة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".

لأول مرة تخسر إسرائيل أوراقها الدعائية في مجال التسويق الحربي والسياسي، وفضلاً عن ذلك تخسر تفوقها الأخلاقي المزيف في التاريخ، حيث تتعالى أصوات الجميع من حلفاء إسرائيل بأنها تجاوزت "الحق في الدفاع عن نفسها"، وقد أجبر ذلك المارد الإنساني المتمثل بالاحتجاجات العظيمة التي تجتاح العالم على تغيير حلفاء إسرائيل تكتيكاتهم الدعائية ومواقفهم السياسية من الممارسات البربرية لدولة إسرائيل، أو بعبارة أخرى بتغيير طريقة نفاقها السياسي كي تحافظ على مواقعها الأخلاقية التي فضحتها حرب غزة.

ما زلنا بانتظار الكارثة الإنسانية في غزة
لنتوقف عند أبرز محطات ذلك النفاق، ونتفحص التغيير بتكتيكاته، الذي يغطي الخطاب السياسي للغرب الديمقراطي وحقوق الإنسان من قمة رأسه حتى أخمص قدميه؛ فمسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزف برويل، وهو كان يتسابق إعلامياً لا مع نظرائه من وزراء خارجية الدول، بل مع الرؤساء مثل بايدن وشولتس وماكرون وسوناك بتشجيع إسرائيل في استخدام الدفاع عن نفسها، أتحفنا قبل أسبوعين بالقول: "إذا لم تتوقف إسرائيل عن حربها فهناك كارثة إنسانية ستحدث في غزة". وبالرغم من أنَّ هذا الموقف متقدم عن مواقف سابقة، لكنه يثير السخرية أيضاً، فلا ندري ما هو شكل الكارثة الإنسانية التي يحذرنا بوريل منها، هل يقصد تسوية غزة بالأرض عن بكرة أبيها، وإبادة من تبقى حياً من سكان قطاع غزة ودفنهم تحت تلك الأرض، أم يقصد في أفضل الأحوال سقوط المزيد من آلاف المدنيين العزل مثلاً الذي تجاوز عشرون ألفاً، أو ستتميز غزة عن بقية بقاع العالم بأنها ستكون أكبر مقبرة للأطفال على حد وصف الأمين العام للأمم المتحدة، أو أنه سيرتفع رقم الذين لا يأكلون من أهالي غزة بشكل يومي من 9 أشخاص من أصل 10 الى 10 من 10. والحقيقة تقال إن من أربك حسابات بوريل وغباء خطابه هو الاحتجاجات الكبيرة التي تدفقت إلى مقر الاتحاد الأوربي في العاصمة البلجيكية بروكسل.

مهزلة العقوبات ضد المستوطنين
أمَّا المشهد الآخر الذي لا يقل سخرية عن مشهد بوريل، فهو قرار الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على المستوطنين. وتحاول كندا أن تحذو حذوه كي تحافظ على القليل من ماء وجهها، في حال بقي بعضه لديها، وغيرها من الدول المتباكية في الوقت الضائع على الضحايا الفلسطينيين بسبب الممارسات العنصرية والنازية للمستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية. هذا القرار، بقدر ما يثير السخرية والاستهجان، يكشف كم كانت تلك الدول وبشكل خاص الاتحاد الأوروبي عمياء بشكل متعمد طوال الفترة الفائتة قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) عن الدولاب الدموي الدائر في الضفة الغربية، بنفس القدر هو مساعٍ فاشلة لإخفاء ما يمكن إخفاءه من الوجه القبيح للسياسة الغربية تجاه ما يحدث من ظلم قومي سافر قل نظيره في التاريخ الحديث.

إنَّ ما وراء هذا القرار هو التملص من المسؤولية في إدانة إسرائيل كدولة احتلال أمام الحشود الجماهيرية الغاضبة في العالم، ومحاكمة المسؤولين فيها بتورطهم السياسي والعملي والدعائي بقتل الفلسطينيين في وضح النهار في الضفة الغربية، بدءاً من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومروراً بوزير الأمن القومي بن غفير الذي يوزع الأسلحة على المستوطنين وانتهاءً بقضاة ومسؤولين في وزارة العدل في إسرائيل. وببداهة، لا يحتاج المرء إلى الكثير من العناء كي يصل إلى الحقيقة وهي أن من أعطى الضوء الأخضر للمستوطنين هي دولة إسرائيل المتمثلة بحكوماتها اليمينية واليسارية على حد سواء وقضائها وقوانينها. والاتحاد الأوروبي ومن يحاول الحذو حذوه يريد الإفلات من العقاب أمام العالم وأمام التاريخ الإنساني، وبطريقة غبية وماكرة، حيث يحاول الفصل بين سياسة الدولة الإسرائيلية وبين مواطنيها من أجل تبرئة ساحة الطبقة الحاكمة الإسرائيلية بجميع أقسامها التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولأول مرة تحدث مثل هذه الهزليات في التاريخ السياسي الحديث. إن دولة إسرائيل وحكومتها، كدولة احتلال، وحسب "القانون الدولي" الذي يقف أمثال بوريل وماكرون وغيرهما من المسؤولين الماكرين في الاتحاد الأوروبي وكندا وبريطانيا تبجيلاً وتقديساً له، وقد فضحتها حرب غزة أكثر مما كشفتها حرب روسيا على أوكرانيا، فلا لون له أي القانون الدولي ولا رائحة ولا شكل، فإسرائيل هي مسؤولة عن أمن وسلامة الشعب الفلسطيني.

إنَّ المستوطن الإسرائيلي العادي، ومن دون قانون يحميه ودولة تسانده ورادع يمنعه من استخدام السلاح تحت عنوان حق الدفاع عن النفس، لن يستطيع ارتكاب جرائم بحق العزل المدنيين بحراسة القوات الأمنية الإسرائيلية. وببساطة، فإنَّ القرار المذكور يثير سؤالاً بسيطاً: هل تقود دولة إسرائيل مجموعة من المافيا لا تنطبق عليها المعايير الدولية الموثقة في المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة وغيرها؟ إذا كان كذلك، فعندها على حلفاء إسرائيل مراجعة حساباتهم وإدراك أنهم يتعاملون مع مافيات. وعليه، فإن إسرائيل لا تمتلك خصائص الدولة بالمعنى القانوني والسيادي والسياسي والأمني، مثلما هو الوضع في اليمن أو ليبيا أو حتى العراق، فهذه البلدان مرتع للجيوش والأجهزة المخابراتية، تقتص بنفسها من كل طرف أو شخص يعكر صفو أمنها أو يهدد مصالحها، حينها يحق للاتحاد الأوروبي وغيره فرض عقوبات على المستوطنين. أما إذا كانت إسرائيل "دولة"، فعلى الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على الأقل على وزير الأمن القومي المصنوع من فخار العنصرية، إذا لم يستطع إدانة حكومة نتنياهو "احتراما" لحليفتها الولايات المتحدة الأميركية.

إنَّ قرار الاتحاد الأوروبي فرض العقوبات على المستوطنين، ويغض الطرف عن المظلة القانونية والأمنية التي تسمى "الدولة" التي يعيشون تحت مظلتها، تعبير عن تخبط وحماقة السياسة الأوروبية بعد أن فقدت كل المعايير الأخلاقية والإنسانية وفضح ادعاءات حقوق الإنسان. إنها بحق تقف عارية أمام العالم وأمام مواطنيها وهي تعرف أن ليس هناك أي غطاء يمكن أن تستتر به لإخفاء وجه سياستها المقيتة والكريهة.

كذبة حل الدولتين
أما المسالة الأخرى في هذه المسرحية التراجيدية، وأبطالها بايدن وسوناك البريطاني، هو التحدث لحد التبجح عن "حل الدولتين"، في حين تتحداهما إسرائيل وعلى لسان جميع المسؤولين بأنها لن تعود إلى اتفاقية أوسلو أو لن تعيد أخطاء أوسلو.

لندع ما تقوله حكومة نتنياهو، ونسلم مع الكذبة التي تروجها الدعاية الغربية بأنها يمينية، ولولا ذلك، لكانت تحترم حقوق الإنسان والشعب الفلسطيني ولما وصلنا إلى ما وصلنا اليه الان، ولنتفحص آلية تعويم حل الدولتين في الخطاب السياسي الغربي وتحديداً الأميركي، فنجده فقط يطفو على السطح في أيام الحروب التي تشعلها إسرائيل ضد الفلسطينيين، أو بشكل أدق عندما تهدد عنجهية وهمجية إسرائيل أمن المنطقة من جهة، وتسهل اشتعال الغضب العالمي من قوى الحرية والسلام والمتمدنة ضد جرائم اسرائيل، وخلال العقود المنصرمة، فخطاب حل الدولتين على لسان البيت الأبيض يطل برأسه فقط في الحالات الآنفة الذكر، وبغير ذلك، فالإدارات الأميركية والاتحاد الأوروبي يغفوان في سبات طويل حتى حرب إسرائيلية جديدة.

واليوم تحاول الإدارة الأميركية حل الدولتين عبر خطابها وادعاءاتها الكاذبة، من أجل امتصاص نقمة وغضب العالم الذي ينظم التظاهرات والاحتجاجات ضد سياسة أميركا تجاه الفلسطينيين؛ من الدعم السياسي المتوج برفع الفيتو في مجلس الأمن ضد قرار وقف دائم للحرب على أهالي غزة والتسويق الدعائي بالترويج للرواية الإسرائيلية الكاذبة، وتقديم المساعدات العسكرية والمالية والاستخباراتية. يضاف الى ذلك أن إدارة بايدن تبغي من خلال الادعاء بحل الدولتين ان تظهر نفسها بشكل منافق بأنها تمسك العصا من الوسط، وبأنها زعيمة عادلة للعالم غير الحر، بيد أن الحقيقة أن تجديد الخطاب السياسي لحل الدولتين هو ضرب من النفاق السياسي للطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة بدمقراطييها وجمهورييها، لأنها لا تصب في تحقيق المصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة على الأقل في المدى المنظور.

القوى التحررية والإنسانية
إن ما تفعله إسرائيل من توظيف ماكينتها الحربية الطاحنة هي جزء من الاستراتيجية الأميركية في حل القضايا السياسية، وهي الحل الأمني والعسكري. واتفاقية أوسلو هي نتاج انتهاء الحرب الباردة، وأن الظروف التي أنتجت اتفاقية أوسلو لم تعد موجودة الآن، خاصة أن ثمة صراعاً محتدماً بين الأقطاب الامبريالية العالمية على إعادة صياغة مفاهيم سياسية وتشكيل معادلات جيوسياسية جديدة.

في خضم هذه الحرب في غزة، فإن إسرائيل أمام خيارين، أحلاهما مر، الأول الاستمرار بحربها الوحشية، ويعني استمرار خسارتها الأخلاقية بالمعنى المطلق إلى جانب خسائرها السياسية والبشرية والعسكرية في غزة ودون أي بصيص امل لانتصارها سياسياً وعسكرياً، أو إيقاف الحرب تحت ضغط المارد الإنساني الذي تتسع جبهته في كل أنحاء العالم. وفي كلا الحالتين فإنَّ إسرائيل لن تجد مكاناً لها بسهولة بين البشرية المتمدنة والمتحضرة.

وعليه، تمثل القضية الفلسطينية اليوم الضمير الإنساني العالمي، فها هي الطبقة العاملة تدخل الميدان في العديد من مدن اليونان وتركيا وأميركا وايطاليا وبريطانيا وإسبانيا دفاعاً عن جماهير فلسطين، فهي تقوم بإغلاق الموانئ من أجل عدم تحميل الأسلحة والمعدات العسكرية لإسرائيل، وتنظم الوقفات الاحتجاجية أمام معامل صناعة الأسلحة لإيقاف الحرب فوراً على سكان غزة، وبموازاة ذلك تنضم الجاليات اليهودية في المدن الأميركية إلى الجبهة الإنسانية لإنهاء جرائم دولة إسرائيل والمطالبة بوقف الحرب فوراً. لقد أمست القضية الفلسطينية قضية البشرية المتمدنة، قضية تجاوزت العرق والجنس والقومية واللون والدين والطائفة، إنها بحق بدأت تدق المسامير الأولى في نعش خطاب المزايدة السياسية لتلك الجماعات القومية والإسلامية في منطقتنا. إنه المارد الإنساني ينهض لرسم مستقبل عنوانه عالم أفضل للبشرية ممكن تحقيقه.