الأستاذ حسن إسماعيل، بلا شك، يتسيد الآن الساحة، وتنتظر شرائح كبيرة من مجتمعنا السوداني طلته عبر الشاشة البلورية في شوق ولهفة. لقد تغاضى مجتمعنا عن انتهازية مزعومة للرجل، دمغه بها نفر عظيم من السودانيين، وبات هم الناس، كل الناس، في وطننا الجريح أن يسمعوه، وأن يسمعوه في تأنٍ وحرص، ويساورهم ذلك اليقين الجازم بأن كل ما يذهب إليه في تحليلاته الدقيقة، هو الصواب الذي لا فصال فيه. وفي الحق أن الكاتب الصحفي، والمحلل السياسي حسن إسماعيل، يعبر عن كل الغيظ والحنق الذي يعصف بأفئدة الناس من الميليشيا المارقة، ميليشيا الدعم السريع، تلك الميليشيا التي مزقت الأمصار، واعتدت على الديار، واستباحت الذمار، وانتهكت العروض.
أنا على الصعيد الشخصي، يعجبني عقل هذا الرجل، ويمتعني حديثه، لأنه قد أصاب من البداهة نصيباً موفوراً، ولأن كلامه الخالي من السذاجة والنقص، مترع بالأدلة والشواهد. وعن كنه المواضيع التي يتناولها بالشرح والتحليل، ويبسط فيها لسانه الطلق بغير حساب، فهي تلك المواضيع التي أقحمتها الأحداث، ووقائع الدهر، في حياة الناس العقلية والشعورية، فمما لا يغيب عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن هذه الهيجاء قد ابتدعت لوناً من اللذة جديداً، ونوعاً من الإعجاب فريداً، وهو التحلق حول شاشة تلك القناة التي جعلت كل برامجها وموادها الإخبارية رهينة لنصرة الجيش، وانتظار ذلك البرنامج، الذي يزيل فيه جنان الأستاذ عن نفسك طائفة من الغشاوات، غشاوات تتفاوت كثافة وحدة، تستمع فيها لتحليلات الأستاذ حسن، وأنت مقتنع بها، مطمئن إليها، مستسلم لها، وقد وضع لها نظاماً فيه شيء غير قليل من الترتيب والتنسيق، فيعمد إلى أبسط هذه الغشاوات، وأشدها سذاجة، فيستقصي أمرها، ثم يبين لك عيوبها وأعطابها، وتهافت أصحابها، وفي الجملة يهدم معبدها، ويمحو شخصية أفرادها، ولا تزال أنت متابعاً له، وهو يهضب في حديثه الذي يلائم حاجتنا إلى التشفي ملاءمة صحيحة، ففي التفاتات الأستاذ، ما هو كفيل بأن يهدئ من شهواتنا الحادة، التي لا سبيل إلى تهدئتها، فنحن في حاجة فعلاً لأن نخضع تلك الشهوات المضطرمة وننظمها، فليس من اليسير جداً علينا، أن نطرد هذه الرغبة الملحة في الانتقام، الانتقام ممن أحالوا حياتنا إلى شقاء، فالناس فعلاً محتاجة لأن تنتقم من مصادر هذه النكبات، ونحن هنا نعترف في وضوح وجلاء أن شهوة الانتقام صخابة متأججة، ممن دفع مجتمعنا لأن يبحث عن مواطن العزلة، في الكهوف، وأعالي الجبال، عله ينجو من سخط الجنجويد، وهجماتهم الوحشية، نقر أيها السادة في إذعان ووضوح، أن كلفنا بشهوة الانتقام من بربرية الدعم السريع، باتت هي المسيطرة على عقولنا، والمهيمنة على وجداننا الشاحب، وأمسينا في تماهينا الصاخب معها، نضيف إليها كل شيء، ونقصر عليها كل عناية، فإذا كان الأمر كذلك، فليس من الحق في شيء، أن يتهمنا أحد بالجموح والشطط، فهناك من يعتقد أن كلامنا هذا ليس من شأنه أن يفهم، فالألفاظ التي تدل عليه، وتوضحه، هو يمجها ولا يستسيغها، لأنه ببساطه لا يستطيع أن يتحمل نقدنا لميليشيا الدعم السريع، ولا حكمنا فيها، من هنا نستطيع أن نرى أشياء ولا نشك في صحتها، فالحقيقة التي لا نستطيع أن نغمط منها أو نزيد، أن هناك طائفة من الناس تكره رأينا هذا، وتنكره، وتنصب الحرب له، بل لا تتوانى عن شتمنا بأقذع الألفاظ في صراحة وحدة، إذا صدعنا برأينا المندد بسلوك الميليشيا، والداعي إلى محقها وإزالتها عن الوجود. ونحن نقرأ كل هذا الثلب والذم، ونبتسم في أسى، فقتل الرأي الحر وإزهاقه، والاساءة إلى صاحبه، لا يعد جريمة في أرض النيلين، وهل نعد وأد الرأي وتكميمه جريمة، إذا ما قارناها بغيرها من الجرائم المتفشية في سوداننا الآن، والتي انتقلت أطوارها في مجتمعنا الهش من طور إلى طور، حتى وصل لإزهاق الشعب بأسره وإبادته، أمام مرأى من العالم، والعالم الذي يغفل عن مجازر السودان في كسل وتراخٍ، يسعى كما يزعم نافذوه، أن يستكشفوا حقيقة الدعم السريع، حتى يستطيعوا أن يصفوه وصفاً واضحاً لا لبس فيه.
إنَّ كل ما وصلنا إليه، بعد كل هذه السنوات من الكتابة الصحفية، استحالة الرضا، وحسن الوفاق، بين طوائفنا السياسية المتعددة، فبعض الطوائف يسوؤها حقاً أن تنتحل نهجاً مخالفاً لنهجها، ورأياً مغايراً لرأيها، فالتعصب لحزب، أو الانكفاء على جماعة، حق مشاع للجميع، ولكن كل هذه الحقائق التي تمثل خلاصة الحياة العقلية القديمة، ما زال البعض يجهلها، أو ينكرها في إسراف وشطط، هذه الطبقة الاقصائية، غالباً ما تطربها أنغام الذل والمهانة التي لحقت بأطياف المجتمع السوداني، فما حل بمجتمعنا الصابر على عرك الشدائد، لم يمس شيئاً من عواطف هذه الناجمة، أو يبعث في نفوسها الصدئة ولو خيطاً ضئيلاً من الرغبة في الانتقام، لأنَّ قناعاتها أنَّ هذا البلاء، لم تصله ميليشيا الدعم السريع، إلا على جحافل الفلول، من بقايا نظام الحركة الإسلامية، الذين قادهم حظهم العاثر لأن يبقوا في أتون هذه الكريهة، ولم يفروا بأموالهم المكدسة إلى تلك الدول الراقية، في الخليج العربي، أو آسيا الوسطى، هذه الطبقة من الناس تعتقد أنَّ كل من شايع الحركة الإسلامية السودانية، قليل الحظ من الأمانة، وأنه لم يغتن - هذا إذا كان غنياً فعلاً - إلا من سعة، لم يتعب هو في جنيها وتحصيلها، وأنه لم يصبها إلا من مال الشعب وذخائره، لكن تظل الأشياء حولنا ثابتة، لا تتغير جواهرها، ونحن حتى تصل الإنسانية إلى درجة متقدمة من الإصلاح والرقي، علينا أن نساير تلك الطائفة، وأن نتحمل عقابيلها، ونذود طعنها وتشنيعها بنا بالفتور والإهمال.
التعليقات