تدرك السعودية خلفيات الصراع التاريخية، ورؤية أميركا في حماية النظام العالمي الليبرالي من الأعداء الذين يريدون تحطيمه، ورغبة بكين وموسكو في الدفاع عن عالم متعدد الأقطاب متساو ومنتظم، ويرفضان احتوائهما من قبل أميركا، وتنتقد بكين واشنطن بسبب نفوذها في منطقة آسيا المحيط الهادي ودعمها استقلال تايوان، فيما ترى موسكو أن واشنطن تستخدم أوكرانيا لتدميرها، وأن هجومها على أوكرانيا رد على حرب بالوكالة تقودها الولايات المتحدة، وعزز الحليفان علاقتهما بعدما نبذت روسيا على الساحة الدولية.

النزعة الانعزالية في أميركا قوية منذ نشأتها لأنها بلد مزدهر يقع خلف المحيطات، وبعيد عن مشكلات العالم القديم في أوروبا المكتظة بالقوميات والأيديولوجيا، والشرق الأوسط بمشاكله التي لا تنتهي، بالرغم من ذلك، ترى أن تركهما سيكونان ساحة لأعدائهما لملء الفراغ الذي يهدد مصالحها، ما يفرض عليها ممارسة دور الشرطي العالمي، وجعلها تنشر نحو 800 قاعدة عسكرية حول العالم، بالرغم من أنها هي من جعلت الصين محركاً اقتصادياً عالمياً، لكن عندما بدأ يتسارع صعودها أصبح يقلق الولايات المتحدة أن تعود الحرب الباردة مرة أخرى، خصوصاً بعدما أصبح الناتج الصيني يمثل 75 بالمئة من الناتج الإجمالي للولايات المتحدة، بعدما كان ناتجها سبعة بالمئة من هذا الناتج عام 1990 وتحتل المركز الأول في الصادرات.

إقرأ أيضاً: الجيش السابع الذي تخشاه إيران

تتابع السعودية ملامح حرب باردة جديدة تتضح من المنافسة بين الصين وأميركا، فالسعودية كدولة صاعدة استطاعت التعامل مع أميركا وروسيا والصين وفق ما يحقق مصالحها، ويتذكر الجميع كيف تجاهلت السعودية تحذيرات أميركا ومطالبتها زيادة إنتاج النفط، ومن أجل الضغط على السعودية اتهمتها أميركا أنها تدعم إيرادات نفطية لروسيا التي دخلت حرباً في أوكرانيا، لكن أثبت الموقف السعودي أنه يخدم السوق منتجين ومستهلكين، لكن دور ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في التوسط بين أميركا وروسيا في صفقة تبادل السجناء بين الجانبين يؤكد حيادية السعودية، ولم تكتف السعودية بذلك بل صوتت ضد روسيا في مجلس الأمن وتقدم مساعدات لأوكرانيا لدعم إعادة إعمار أوكرانيا.

السعودية تعتبر العلاقة مع واشنطن تاريخية وصلبة، وتعتبر واشنطن حليفاً قوياً للرياض، ولم تتوقف السعودية عند هذه الشراكة الممزوجة بالحياد الإيجابي، بل اتجهت إلى التهدئة مع إيران برعاية بكين، واعتبرت إيران جزءاً من المنطقة وجارة، وقال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان سنستمر في مد اليد، سعياً لإقامة علاقة إيجابية تخدم استقرار المنطقة ورفاهية شعوبها.

إقرأ أيضاً: حرب السيوف الحديدية واليوم الذي سيلي

عندما وجدت واشنطن أنَّ الصين حريصة على أمن المنطقة واستقرارها بإحيائها طريق الحرير التراثي التاريخي الذي كان يمتد من مدينة تشان غان عاصمة الصين خلال عهد سلالتي هان والتانغ إلى أوروبا عبر آسيا الوسطى والشرق الأوسط من القرن الثاني قبل الميلاد حتى القرن السادس عشر يمتد لمسافة خمسة آلاف كيلومتر حالياً يصل أوروبا عبر السعودية، وهو مشروع اقتصادي عملاق يحقق لها النمو المستدام باسم مبادرة الحزام والطريق، يقابله مشروع أميركي واعد في الشرق الأوسط لمواجهة طريق الحرير الصيني، فلجأت الولايات المتحدة إلى مشروع مماثل الممر الهندي الإسرائيلي الأوروبي كما لجأت بكين إلى التهدئة بين الرياض وبكين من أجل استقرار المنطقة، الذي يتطلب من الولايات المتحدة معالجة ملفات عديدة منها النفوذ الإيراني، وتحجيم أذرعها في المنطقة التي تتغذى على ملف القضية الفلسطينية، ولا يمكن وضع نهاية لهذه الأذرع إلا بعد إيجاد حل للقضية الفلسطينية.

نجحت السعودية في تحول الصراع في المنطقة بين إيران وأذرعها والولايات المتحدة، بحيث فرضت واقعاً جديداً لم يكن موجوداً من قبل، بدءاً من توجهات أممية وأوروبية ودول الانحياز التي باتت تطالب بتحقيق الدولتين ولأول مرة في تاريخ القضية.

السعودية تقود المنطقة التي تعيش حالة انتقال وتغير بعدما استطاعت إعادة ترتيب دول المنطقة قطر وتركيا وإيران على أساس اندماج إقليمي أفضل، وخفتت ضوضاء اتفاقات أبراهام، وحل محلها المطالبة بإقامة دولة فلسطينية على حدود 67 عاصمتها القدس الشرقية.

إقرأ أيضاً: إيران وفشل نظرية ولاية الفقيه

أدركت إيران أن ما تشعله من توترات إقليمية بات يهدد أمنها خصوصاً بعدما أدرك العالم أن السعودية تقود شرق أوسط كمحرك اقتصادي وممول طاقوي خصوصاً بعد تضرر سلاسل الإمدادات العالمية بعد حرب أوكرانيا وأصبحت أوروبا أكثر حاجة لطاقة الشرق الأوسط، وأنه سيؤمن سلاسل الإمداد التي تأثرت بجائحة كورونا وبحرب أوكرانيا وغزة وضربات الحوثي في البحر الأحمر وزيادة الهجمات على القوات الأميركية التي وصلت إلى أكثر من 130 هجمة في العراق وسوريا نتج عنها قتل ثلاثة جنود أميركيين على الحدود السورية العراقية الأردنية في النتف.

ووفق صحيفة فايننشال تايمز تضغط أمريكا على إيران للتوقف عن بيع طائرات مسيرة مسلحة إلى روسيا في إطار تفاهم غير مكتوب أوسع نطاقاً لخفض التوتر تقول أميركا إنها شراكة دفاعية عميقة بين روسيا وإيران، وفي نفس الوقت تحاول أميركا وإسرائيل قطع الطريق الإيراني إلى لبنان والبحر المتوسط، مما فرض على الولايات المتحدة القيام بضربات لقادة من حزب الله العراقي، وقيام إسرائيل بضربات تستهدف قيادات لحزب الله في لبنان، بجانب الهجمات الأميركية الجراحية للحوثي في اليمن التي تستهدف فقط تحجيم قوتهم الصاروخية.